وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقد روي عن أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن ابن عباس عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن . فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيها بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانيا حقا . وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ . ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية - بالدال - ويقال : المعمورية - بالراء - . قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فرد الله ذلك بقوله : ( صبغة الله ) . وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة . وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله .
وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله . وقد تقدم أن تلك قراءة الطبري الأعرج . فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر [ ص: 412 ] المؤكد عن قوله : ( وابن أبي عبلة قولوا آمنا بالله ) . وقيل : عن قوله : ( ونحن له مسلمون ) . وقيل : عن قوله : ( فقد اهتدوا ) وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله . وقيل : بدل من قوله : ( ملة إبراهيم ) ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : ( ونحن له عابدون ) ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه . وأما البدل فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز . والأحسن أن يكون منتصبا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : ( قولوا آمنا ) ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم . وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيرا ، لا مثل تطهيرنا . ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ، إذ قبله : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) ، معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلا يصطنع الكرم . وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله .
( ومن أحسن من الله صبغة ) : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة . وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء . وانتصاب " صبغة " هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ . وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويون على أن من التمييز المنقول تمييزا نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله . فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين .
( ونحن له عابدون ) : متصل بقوله : ( آمنا بالله ) ، ومعطوف عليه . قال : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه . وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكد ، هو الذي ذكره الزمخشري ، والقول ما قالت حذام . انتهى . وتقديره : في الإغراء " عليكم صبغة الله " ليس بجيد ; لأن الإغراء إذا كان بالظرف والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه " بالزموا صبغة الله " . وتقدم الكلام على العبادة في قوله : ( سيبويه إياك نعبد ) ، وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، أي ليوحدون . وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله . وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة .