[ ص: 445 ] الجمهور : على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل : ( أتقتلون رجلا ) ، قص الله أقاويله إلى آخر الآيات .
لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف ، أتى بنوع آخر من التهديد ، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم ، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد ، ولم يهب فرعون .
وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قد تم ، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى - عليه السلام - واحتجوا بقوة كلامه ، وأنه جنح معهم بالإيمان ، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ، ولم يكن كلام الأول إلا علانية لهم ، وأفرد اليوم ، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب ، أو أراد به الجمع ، أي : مثل أيام الأحزاب ؛ لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم . والأحزاب : الذين تحزبوا على أنبياء الله .
و ( مثل دأب ) ، قال ابن عطية : بدل . وقال : عطف بيان . الزمخشري
وقال : مثل يوم حزب ، و ( دأب ) عادتهم وديدنهم في الكفر والمعاصي . الزجاج
( وما الله يريد ظلما للعباد ) ، أي : إن إهلاكه إياهم كان عدلا منه ، وفيه مبالغة في نفي الظلم ، حيث علقه بالإرادة . فإذا نفاه عن الإرادة ، كان نفيه عن الوقوع أولى وأحرى .
ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب ، خوفهم أمر الآخرة فقال ، تعطفا لهم بندائهم : ( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ) وهو يوم الحشر . والتنادي مصدر تنادى القوم أي : نادى بعضهم بعضا . قال الشاعر :
[ ص: 464 ]
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا فقلت أعبد الله ذلكم الردي
وسمي يوم التنادي ، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور ، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف ، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر ، وإما لنداء المؤمن : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) ، والكافر : ( ياليتني لم أوت كتابيه ) . وقرأت فرقة : التناد ، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف ، وقرأ ، ابن عباس والضحاك ، وأبو صالح ، والكلبي ، والزعفراني ، وابن مقسم : التناد ، بتشديد الدال : من ند البعير إذا هرب . كما قال : ( يوم يفر المرء من أخيه ) الآية ، وقال ، وغيره : في ( ابن عباس التناد ) خفيفة الدال هو التنادي ، أي : يكون بين الناس عند النفخ في الصور ، ونفخة الفزع في الدنيا ، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم ، وينادي بعضهم بعضا .
وروي هذا التأويل عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . أبي هريرة
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة . انتهى .
قال : أمية بن أبي الصلت
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم سكانها حتى التنادي
وفي الحديث : " إن للناس جولة يوم القيامة يندون " ، يظنون أنهم يجدون مهربا ; ثم تلا : ( يوم تولون مدبرين ) .
قال مجاهد : معناه فارين . وقال : ( السدي ما لكم من الله من عاصم ) في فراركم حتى تعذبوا في النار .
وقال قتادة : ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم ، أي : مانع ، يمنعكم منها ، أو ناصر .
ولما يئس المؤمن من قبولها قال : ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) .
ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل ، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات . والظاهر أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون هو فرعون موسى ، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة .
وقيل : بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب ، وأن فرعون هو فرعون ، غير فرعون موسى .
و ( بالبينات ) : بالمعجزات . فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين ، حتى إذا توفي ، قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) . وليس هذا تصديقا لرسالته ، وكيف وما زالوا في شك منه ، وإنما المعنى : لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق ، ففيه نفي الرسول ، ونفي بعثته .
وقرئ : ( ألن يبعث ) ، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي ، كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة .
( كذلك ) أي : مثل إضلال الله إياكم ، أي : حين لم تقبلوا من يوسف ، ( يضل الله من هو مسرف مرتاب ) : يعنيهم ؛ إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء .
وجوزوا في ( الذين يجادلون ) أن تكون صفة لـ ( من ) ، وبدلا منه : أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف ، أي : جدال الذين يجادلون ، حتى يكون الضمير في ( كبر ) عائدا على ذلك أولا ، أو على حذف مضاف ، والفاعل بـ ( كبر ) ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله : ( يجادلون ) ، أو ضمير يعود على ( من ) على لفظها ، على أن يكون ( الذين ) صفة ، أو بدلا أعيد أولا على لفظ ( من ) في قوله : ( هو مسرف كذاب ) . ثم جمع الذين على معنى ( من ) ، ثم أفرد في قوله : ( كبر ) على لفظ ( من ) .
وقال : ويحتمل أن يكون ( الزمخشري الذين يجادلون ) مبتدأ و ( بغير سلطان أتاهم ) خبرا ، وفاعل ( كبر ) قوله : ( كذلك ) ، أي : ( كبر مقتا ) مثل ذلك الجدال ، و ( يطبع الله ) كلام مستأنف ، ومن قال : ( كبر مقتا عند الله ) جدالهم ، فقد حذف الفاعل ، والفاعل لا يصح حذفه . انتهى ، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح ، [ ص: 465 ] فكيف في كلام الله ؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه .
أما تفكيك الكلام ، فالظاهر أن ( بغير سلطان ) متعلق بـ ( يجادلون ) ، ولا يتعقل جعله خبرا للذين ؛ لأنه جار ومجرور ، فيصير التقدير : ( الذين يجادلون في آيات الله ) : كائنون ، أو مستقرون ، ( بغير سلطان ) ، أي : في غير سلطان ؛ لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة ، وكذلك في قوله يطبع أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام ؛ لأن ما جاء في القرآن من ( كذلك يطبع ) ، أو نطبع ، إنما جاء مربوطا بعضه ببعض ، فكذلك هنا . وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه ، فجعل الكاف اسما فاعلا بـ ( كبر ) ، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش ، ولم يثبت في كلام العرب ، أعني نثرها : جاءني كزيد ، تريد : مثل زيد ، فلم تثبت اسميتها ، فتكون فاعلة .
وأما قوله : ومن قال إلى آخره ، فإن قائل ذلك وهو الحوفي ، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب . وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بـ ( كبر ) ضمير يعود على الجدال المفهوم من ( يجادلون ) ، كما قالوا : من كذب كان شرا له ، أي : كان هو ، أي : الكذب المفهوم من كذب . والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون ( الذين ) مبتدأ وخبره ( كبر ) ، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من ( يجادلون ) ، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب ، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم ، وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم ، ولا يفجئهم بالخطاب . وفي قوله : ( كبر مقتا ) ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حد إشكاله من الكبائر .
( كذلك ) أي : مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين ، ( يطبع الله ) أي : يختم بالضلالة ويحجب عن الهدى . وقرأ أبو عمرو بن ذكوان ، ، بخلاف عنه : ( قلب ) بالتنوين ، وصف القلب بالتكبر والجبروت ، لكونه مركزهما ومنبعهما ، كما يقولون : رأت العين ، وكما قال : ( والأعرج فإنه آثم قلبه ) ، والإثم : الجملة ، وأجاز أن يكون على حذف المضاف ، أي : على كل ذي قلب متكبر ، بجعل الصفة لصاحب القلب . انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف . الزمخشري
وقرأ باقي السبعة : ( قلب متكبر ) بالإضافة ، والمضاف فيه العام عام ، فلزم عموم متكبر جبار . وقال مقاتل : المتكبر : المعاند في تعظيم أمر الله ، والجبار : المسلط على خلق الله .
( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا ) ، أقوال فرعون : ذروني أقتل موسى ، ما أريكم إلا ما أرى ، يا هامان ابن لي صرحا ، حيدة عن محاجة موسى ، ورجوع إلى أشياء لا تصح ، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة ، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى ، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى ، هذا على كثرة سفكه الدماء .
وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته .
قال : الأسباب : الطرق . وقال السدي قتادة : الأبواب ; وقيل : عنى لعله يجد مع قربه من السماء سببا يتعلق به ، وما أداك إلى شيء فهو سبب ، وأبهم أولا الأسباب ، ثم أبدل منها ما أوضحها . والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء ، إذ في الإبهام تشوق للمراد ، وتعجب من المقصود ، ثم بالتوضيح يحصل المقصود ويتعين .
وقرأ الجمهور : ( فأطلع ) رفعا ، عطفا على ( أبلغ ) فكلاهما مترجى . وقرأ ، الأعرج وأبو حيوة ، ، وزيد بن علي والزعفراني ، وابن مقسم ، وحفص : ( فأطلع ) ، بنصب العين . وقال أبو القاسم بن جبارة ، وابن عطية : على جواب التمني . وقال : على جواب الترجي ، تشبيها للترجي بالتمني . انتهى . الزمخشري
وقد فرق النحاة بين التمني والترجي ، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع ، والترجي يكون في الممكن .
وبلوغ أسباب السماوات غير ممكن ، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويها على سامعيه .
وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون ، واحتج [ ص: 466 ] الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم ، ( فتنفعه الذكرى ) في سورة عبس ، إذ هو جواب الترجي في قوله : ( لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) . وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفا على التوهم ؛ لأن خبر لعل كثيرا جاء مقرونا بأن في النظم كثيرا ، وفي النثر قليلا .
فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا كان منصوبا بأن ، والعطف على التوهم كثير ، وإن كان لا ينقاس ، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج ، وأما هنا ، ( فأطلع ) فقد جعله بعضهم جوابا للأمر ، وهو قوله : ( ابن لي صرحا ) ، كما قال الشاعر :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
ولما قال : ( فأطلع إلى إله موسى ) ، كان ذلك إقرارا بإله موسى ، فاستدرك هذا الإقرار بقوله : ( وإني لأظنه ) أي : في ادعاء الإلهية ، كما قال في القصص : ( لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ) .
( وكذلك ) أي : مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى .
( زين لفرعون سوء عمله ) . وقرأ الجمهور : ( زين لفرعون ) مبنيا للمفعول ; وقرئ : ( زين ) مبنيا للفاعل . وقرأ الجمهور : ( وصد ) مبنيا للفاعل أي : وصد فرعون ; والكوفيون : بضم الصاد مناسبا لـ ( زين ) مبنيا للمفعول ; وابن وثاب : بكسر الصاد ، أصله صدد ، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها ; وابن إسحاق ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة ، بفتح الصاد وضم الدال ، منونة عطفا على ( سوء عمله ) . والتباب : الخسران ، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق ، وفي الآخرة بخلود النار ، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين ، متبعا كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل ، وأمر هنا باتباعه ؛ لأن يهديهم سبيل الرشاد .
وقرأ : بشد الشين ، وتقدم الكلام على ذلك . والرد على من جعل هذه القراءة في كلام معاذ بن جبل فرعون ، وأجمل أولا في قوله : ( سبيل الرشاد ) ، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه .
ثم فسر ، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها ، وأنها متاع زائل ، هي ومن تمتع بها ، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار .
وكذلك قال : ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ) . وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، ، والأخوان ، والصاحبان ، والأعمش وحفص : ( يدخلون ) مبنيا للفاعل ، وباقي السبعة ، ، والأعرج والحسن ، وأبو جعفر ، وعيسى : مبنيا للمفعول .