( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر ( التي كنت عليها ) . والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أولا عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أولا ; لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم صار يصلي إلى الكعبة . وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال . فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني . ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا ، وجعلت الجاهل عالما ؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولا ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم . ووهم في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل . تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الزمخشري بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفا لليهود ، ثم حول إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء ، انتهى ما ذكره .
وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول . وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة . والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتد . وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ; لأنه قد كان متوجها إليهما في وقتين . وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم . وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعلم . وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب . وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه . وقال : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : ( ابن عباس كنتم خير أمة ) بمعنى : أنتم . انتهى . وهذا من ، إن صح - تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ; لأنه يئول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد . وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ما نقله [ ص: 424 ] النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه . فإذا قلت : صرت عالما ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه . فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب . وكذلك من صار خير أمة ، صح أن يقال فيه : أنتم خير أمة . ابن عباس
" إلا لنعلم " : استثناء مفرغ من المفعول له ، وفيه حصر السبب ، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا . وظاهر قوله : " لنعلم " ، ابتداء العلم ، وليس المعنى على الظاهر ، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى . فأول على حذف مضاف ، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون ، وأسند علمهم إلى ذاته ; لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه . فيكون هذا من مجاز الحذف ، أو على الحذف ، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز ; لأن بالعلم يقع التمييز ، أي لنميز التابع من الناكص ، كما قال تعالى : ( حتى يميز الخبيث من الطيب ) ، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب ، ويراد به المسبب . وحكي هذا التأويل عن ، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب . فليس المعنى لنحدث العلم ، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا ; إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول . واستمر العلم حتى وقع حدوثهم ، واستمر في حين الاتباع والانقلاب ، واستمر بعد ذلك . والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم ، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده . أو على أنه أراد بالعلم التثبيت ، أي لنثبت التابع ، ويكون من إطلاق السبب ويراد به المسبب ; لأن من علم الله أنه متبع للرسول ، فهو ثابت الاتباع . أو على أنه أريد بالعلم الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن ، وفي كلام العرب ، بذكر العلم ، كقولك : زيد عصاك ، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك ، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي ، التقدير : لما علمنا ، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف . فهذه كلها تأويلات في قوله : " لنعلم " ، فرارا من حدوث العلم وتجدده ، إذ ذلك على الله مستحيل . وكل ما وقع في القرآن ، مما يدل على ذلك ، أول بما يناسبه من هذه التأويلات . ونعلم هنا متعد إلى واحد ، وهو الموصول ، فهو في موضع نصب ، والفعل بعده صلته . وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة ، كما تقول : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، حكاه ابن عباس . وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، ويتبع في موضع الجر ، والجملة في موضع المفعول ب نعلم . وقد رد هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم ، لم يبق لقوله : ( الزمخشري ممن ينقلب ) ، ما يتعلق به ; لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله ، ولا يصح تعلقها بقوله : ( يتبع ) ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية ; لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم ، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء . وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز ; إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز ; لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن . وقرأ : " ليعلم " ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبني الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون . وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : ( الزهري كنت عليها ) ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة . وجاء الخطاب مكتنفا ذكر الرسول مرتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة . ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض . ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : ( التي كنت عليها ) ، فهذه - والله أعلم - حكمة الالتفات هنا . وقوله : ( ينقلب على عقبيه ) كناية [ ص: 425 ] عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل . والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتد في الدين به . والمعنى : أنه كان متلبسا بالإيمان ، فلما حولت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه .