لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر
قال : قد نرى : ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله : الزمخشري
لاقد أترك القرن مصفرا أنامله
انتهى . وشرحه هذا على التحقيق متضاد ; لأنه شرح قد نرى بربما نرى . ورب ، على مذهب المحققين من النحويين ، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره . ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية ، فهو مضاد [ ص: 428 ] لمدلول رب على مذهب الجمهور . ثم هذا المعنى الذي ادعاه ، وهو كثرة الرؤية ، لا يدل عليه اللفظ ; لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة . هذا التركيب ، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي ، ولا غير المضي ، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية ، وهو التقلب ; لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة ، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء ، وإنما يقال : قلب إذا ردد . فالتكثير ، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب ، نحو : قطعته فتقطع ، وكسرته فتكسر ، وما طاوع التكثير ففيه التكثير . والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره . قال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة . وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء . وقال : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه الزمخشري إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود ، فكان يراعي نزول جبريل - عليه السلام - والوحي بالتحويل . انتهى كلامه ، وهو كلام الناس قبله . فالأول : قول ، وهو ليصيب قبلة ابن عباس إبراهيم . والثاني : قول السدي والربيع ، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة . والثالث : قول مجاهد ، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، فأراد مخالفتهم . وقيل : كنى بالوجه عن البصر ; لأنه أشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب . تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان . وقال :
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه
وهو من الكناية بالكل عن الجزء ، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف ، ويكون التقدير بصر وجهك ; لأن هذا لا يكاد يستعمل ، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك ; لا يكاد يقال : أنف وجهك ، ولا خد وجهك . في السماء : متعلق بالمصدر ، وهو تقلب ، وهو يتعدى بفي ، فهي على ظاهرها . قال تعالى : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) ، أي في نواحي السماء ، في هذه الجهة ، وفي هذه الجهة . وقيل : في بمعنى إلى . وقيل : في السماء متعلق بترى ، وفي : بمعنى من ، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك ، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان . وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ; لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها . واختص التقلب بالسماء ; لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السماء .
( فلنولينك قبلة ترضاها ) : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها . وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ; لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها . وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به آنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب . ونكر القبلة ; لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام . وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ; لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرح بذلك . قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين . والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك .
( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة . وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس . قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ; لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها . ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر [ ص: 429 ] الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة . وأقول : في قوله : ( فلنولينك قبلة ترضاها ) ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ; لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة . وأراد بالوجه : جملة البدن ; لأن الواجب استقبالها بجملة البدن . وكنى بالوجه عن الجملة ; لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض . وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : ( قد نرى تقلب وجهك ) بقوله : ( فول وجهك ) . وتقدم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو . وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار . وقال الشافعي الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ; لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد . والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : ( فول وجهك شطر المسجد ) ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة . ويدل على صحة ما ذكرناه . أن المصلي خارج المسجد متوجها إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته . وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة . قال وغيره : وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت كله . وقال ابن عباس : إنما وجه هو وأمته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة ابن عمر المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، " فول وجهك تلقاء المسجد الحرام " . والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ; البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول ابن عباس مالك . وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ; لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما على من خرج لبعده عن مسامتتها . وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها . واستدل مالك من قوله : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافا للثوري والشافعي ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافا والحسن بن حي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره . قال لشريك القاضي : إنما قلنا ينظر أمامه ; لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، ( الحافظ أبو بكر بن العربي وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
( وحيثما كنتم ) : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان ، في أي في موضع كنتم ، وهو شرط وجزاء ، والفاء جواب الشرط ، وكنتم في موضع جزم . وحيث : هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية ، الخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ; لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة فينافي اسم الشرط ; لأن الشرط مبهم . فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط ، وجوزي بها ، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال . وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها ، وخلاف الفراء في ذلك . ( فولوا وجوهكم شطره ) : وهذا أمر لأمة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما تقدم أمره بذلك ، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد ، مع مزيد عموم في الأماكن ، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، فبين أنهم في أي ما حصلوا من بقاع الأرض ، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد . ولما كان - صلى الله عليه وسلم - هو المتشوق لأمر [ ص: 430 ] التحويل ، بدأ بأمره أولا ثم أتبع أمر أمته ثانيا لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به - صلى الله عليه وسلم - . وفي حرف عبد الله : " فولوا وجوهكم قبله " . وقرأ : فولوا وجوهكم تلقاءه ، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر : النحو . ابن أبي عبلة
( وإن الذين أوتوا الكتاب ) : أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم . وقال : هم السدي اليهود . ( ليعلمون أنه ) : أي التوجه إلى المسجد الحرام ، ( الحق ) : الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته . وقال قتادة والضحاك : إن القبلة هي الكعبة . وقال : الضمير يعود على الشطر ، وهو قريب من القول الثاني ; لأن الشطر هو الجهة . وقيل : يعود على الكسائي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي يعرفون صدقه ونبوته ، قاله قتادة أيضا ومجاهد . ومفسر هذه الضمائر متقدم . فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله : ( فول وجهك ) ، فيعود على المصدر المفهوم من قوله : ( فولوا ) ، ومفسر ضمير القبلة قوله : ( قبلة ترضاها ) ، ومفسر ضمير الشطر قوله : ( شطر المسجد الحرام ) ، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه - صلى الله عليه وسلم - . فعلى هذا الوجه يكون التفاتان . والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين ، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد ; لأن معموله هو أن وصلتها ، فيحتمل الوجهين ، وعلمهم بذلك ، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وإما لأن في كتابهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي صادق ، فلا يأمر إلا بالحق ، وإما لجواز النسخ ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى القبلتين . ( من ربهم ) : جار ومجرور في موضع الحال ، أي ثابتا من ربهم . وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد ، إنما هو بأمر من الله تعالى . وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك ، كما قال تعالى : ( الحق من ربك ) .
( وما الله بغافل عما يعملون ) : قرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على الخطاب . فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله : ( والكسائي فولوا وجوهكم شطره ) ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب ، فتكون من باب الالتفات . ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم ، تحريكا لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق ; لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر . ومن قرأ بالياء ، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة . وعلى كلتا القراءتين ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ، ولا يغفل عنها ، وهو متضمن الوعيد .