[ ص: 123 ] ( أفعيينا بالخلق الأول ) : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى : ( ولم يعي بخلقهن ) . وقرأ الجمهور : أفعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي . وقرأ ، ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم والقورصبي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل . وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات له : أفعينا بتشديد الياء . ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي . فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عينا ، وهي لغة لبعض ابن أبي عبلة بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة . فلو كان نا ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردنا زيد . وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم . ( بل هم في لبس ) : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله . ( من خلق جديد ) : أي من البعث من القبور .
( ولقد خلقنا الإنسان ) : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان اسم جنس . وقيل : آدم . ( ونحن أقرب ) : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة . و ( حبل الوريد ) : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار . قال : ذو الرمة
والموت أدنى لي من الوريد
والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سائبة . أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب . وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك . فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع . فمنها : ( إذ يتلقى المتلقيان ) ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد . والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان ، ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئات . وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل . وقعيد : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم . قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والأجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه بريا ، ووالدي بريا . ومذهب أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه . ومذهب المبرد الفراء أن لفظ " قعيد " يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير . وقرأ الجمهور : ( ما يلفظ من قول ) ، وظاهر ما يلفظ العموم . قال مجاهد ، وأبو الحوراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك . وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر . [ ص: 124 ] وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب . واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء . ( رقيب ) : ملك يرقب . ( عتيد ) : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل . وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته . وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك .
( وجاءت سكرة الموت ) : هو معطوف على ( إذ يتلقى ) ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في ( بالحق ) للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسه بالحق . وقرأ : سكران جمعا . ( ابن مسعود ذلك ما كنت منه تحيد ) : أي تميل . تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن . ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت . وقال : الخطاب للفاجر . تحيد : تنفر وتهرب . ( الزمخشري ذلك يوم الوعيد ) ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد . والإشارة إلى مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معا على سبيل التخويف .
وقرأ الجمهور : معها ، وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في الهاء ، فانقلبتا حاء ، كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، ( سائق ) : جاث على السير ، ( وشهيد ) : يشهد عليه . قال ، عثمان بن عفان ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه . وقال : السائق ملك ، والشهيد النبي . وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشورا ، والظاهر أن قوله : ( أبو هريرة سائق وشهيد ) اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد . وقال ، ابن عباس والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان . قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره . ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ابن عباس . وقال " لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " : السائق ملك ، والشهيد العمل . وقال أبو هريرة أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف . وقال : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله ، أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ، ومحل معها سائق النصب على الحال من ( كل ) لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدئ في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة . الزمخشري