تقدم الكلام على " كأين " في آل عمران ، وعلى " نكرا " في الكهف . ( عتت ) أعرضت عن أمر ربها على سبيل العناد والتكبر . والظاهر في ( فحاسبناها ) الجمل الأربعة ، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها : أعد الله لهم عذابا شديدا وظاهره أن المعد عذاب الآخرة ، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة ، فلم تغتفر لهم زلة ، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب . وقيل : الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله : ونادى أصحاب الجنة ويكون قوله : أعد الله لهم تكريرا للوعيد وبيانا لكونه مترقبا ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب . وقال الكلبي : الحساب في الآخرة ، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف . ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية ، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيرا من عقابه ، ونبه على ما يحض على التقوى ، وهو إنزال الذكر . والظاهر أن الذكر هو القرآن ، وأن الرسول هو محمد ، صلى الله عليه وسلم . فإما أن يجعل نفس الذكر مجازا لكثرة يقدر منه الذكر ، فكأنه هو الذكر ، أو يكون بدلا على حذف مضاف ، أي : ذكر رسول . وقيل : ( رسولا ) نعت على حذف مضاف ، أي : ذكرا ذا رسول . وقيل : المضاف محذوف من الأول ، أي : ذا ذكر رسولا ، فيكون ( رسولا ) نعتا لذلك المحذوف أو بدلا . وقيل : رسول بمعنى رسالة ، فيكون بدلا من ذكر ، أو يبعده قوله بعده : يتلو عليكم والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازا . وقيل : الذكر أساس أسماء النبي ، صلى الله عليه وسلم . وقيل : الذكر الشرف ; لقوله : وإنه لذكر لك ولقومك فيكون ( رسولا ) بدلا منه وبيانا له . وقال الكلبي : الرسول هنا جبريل - - عليه السلام - وتبعه ، فقال : ( رسولا ) هو الزمخشري جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أبدل من ( ذكرا ) لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، فصح إبداله منه . انتهى . ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال ، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكرا ورسولا لشيء واحد . وقيل : ( رسولا ) منصوب بفعل محذوف ، أي بعث رسولا ، أو أرسل رسولا ، وحذف لدلالة أنزل عليه ، ونحا إلى هذا ، واختاره السدي ابن عطية . وقال الزجاج وأبو علي الفارسي : يجوز أن يكون ( رسولا ) معمولا للمصدر الذي هو الذكر . انتهى . [ ص: 287 ] فيكون المصدر مقدرا بأن ، والقول تقديره : أن ذكر رسولا وعمل منونا كما عمل ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وكما قال الشاعر :
بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل
وقرئ : رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج ، يصح أن يتعلق بـ ( يتلو ) وبـ ( أنزل ) . الذين آمنوا أي : الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم ، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه . وقال : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ; لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . انتهى . والضمير في ( ليخرج ) عائد على الله تعالى ، أو على الرسول - صلى الله عليه وسلم ، أو على الذكر . الزمخشري ومن يؤمن راعى اللفظ أولا في " من " الشرطية ، فأفرد الضمير في ( يؤمن ) ( ويعمل ) و ( يدخله ) ثم راعى المعنى في ( خالدين ) ثم راعى اللفظ في قد أحسن الله له فأفرد . واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولا ، ثم مراعاة المعنى ، ثم مراعاة اللفظ . وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا ; لأن الضمير في ( خالدين ) ليس عائدا على " من " بخلاف الضمير في ( يؤمن ) ( ويعمل ) و ( يدخله ) وإنما هو عائد على مفعول ( يدخله ) و ( خالدين ) حال منه ، والعامل فيها ( يدخله ) لا فعل الشرط .
الله الذي خلق سبع سماوات لا خلاف أن السماوات سبع بنص القرآن والحديث ، كما جاء في حديث الإسراء ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ، وغيره من نصوص الشريعة . وقرأ الجمهور : ( مثلهن ) بالنصب ، و المفضل عن عاصم ، و عصمة عن أبي بكر : " مثلهن " بالرفع فالنصب ، قال : عطفا على سبع سموات . انتهى ، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف ، وهو الواو ، والمعطوف ; وهو مختص بالضرورة عند الزمخشري أبي علي الفارسي ، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه ، أي : وخلق من الأرض مثلهن ، فـ ( مثلهن ) مفعول للفعل المضمر لا معطوف ، وصار ذلك من عطف الجمل ، والرفع على الابتداء ومن الأرض الخبر ، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف . فقال الجمهور : المثلية في العدد أي : مثلهن في كونها سبع أرضين . وفي الحديث : طوقه من سبع أرضين ورب الأرضين السبع وما أقللن ، فقيل : سبع طباق من غير فتوق . وقيل : بين كل طبقة وطبقة مسافة . قيل : وفيها سكان من خلق الله . قيل : ملائكة وجن . وعن ، من رواية ابن عباس الكذاب ، قال : في كل أرض الواقدي آدم كآدم ، ونوح كنوح ، ونبي كنبيكم ، وإبراهيم كإبراهيمكم ، و عيسى كعيسى ، وهذا حديث لا شك في وضعه . وقال أبو صالح : إنها سبع أرضين منبسطة ، ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار ، وتظل جميعها السماء .
يتنزل الأمر بينهن : من السماوات السبع إلى الأرضين السبع . وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي ، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة . وقال الأكثرون : الأمر ، القضاء ، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها ، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها . وقيل : " يتنزل الأمر بينهن " بحياة وموت وغنى وفقر . وقيل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير . وقرأ الجمهور : " يتنزل " مضارع تنزل . وقرأ عيسى وأبو عمر ، وفي رواية : ينزل مضارع نزل مشددا ، الأمر بالنصب . والجمهور : " لتعلموا " بتاء الخطاب . وقرئ : بياء الغيبة ، والله تعالى أعلم .