( إن الله مع الصابرين ) : أي بالمعونة والتأييد ، كما قال : " اهجهم وروح القدس معك " . وقال تعالى : ( لا تحزن إن الله معنا ) ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر ، وصار الصبر أصلا لجميع التكاليف الشاقة قال : ( إن الله مع الصابرين ) ، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل . وأما قوله هناك : ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام ; لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر .
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) ، قيل : سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها ، فأنزلت . نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات ، وأخبر تعالى أنهم أحياء ، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم أموات ، بل هم أحياء . ويحتمل أن يكون بل أحياء ، مندرجا تحت قول مضمر ، أي بل قولوا هم أحياء . لكن يرجح الوجه الأول ، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله : ( ولكن لا تشعرون ) ; لأن معناه : أن حياتهم لا شعور لكم بها ، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة . وقيل : ذلك مجاز . واختلفوا فقيل : أموات بانقطاع الذكر ، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر . وكانت العرب تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد وغيره ميتا . وقيل : أموات بالضلال ، بل أحياء بالطاعة والهدى ، كما قال : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) . وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا ، فقال قوم : معناه النهي عن قول الجاهلية : إنهم لا يبعثون ، فالمعنى : أنهم سيحيون بالبعث ، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله . وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت . ومعنى هذه الحياة : بقاء أرواحهم دون أجسادهم ; إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها . واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر ، وبقوله : ( ولكن لا تشعرون ) معناه : لا تشعرون بكيفية حياتهم . ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة ، أو أنهم على هدى ونور ، لم يظهر لنفي الشعور معنى ، إذ هو خطاب للمؤمنين ، وهم قد علموا بالبعث ، وبأنهم كانوا على هدى . فلا يقال فيه : ولكن لا تشعرون ; لأنهم قد شعروا به وبقوله : ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ) .
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح ، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره . فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء ، كما قال تعالى : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ ص: 449 ] ) ، وكما ترى النائم على هيئته ، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به . ونقل السهيلي في كتاب ( دلائل النبوة ) من تأليفه ، حكاية عن بعض الصحابة ، أنه حفر في مكان ، فانفتحت طاقة ، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامه روضة خضراء ، وذلك بأحد ، وعلم أنه من الشهداء ; لأنه رأى في صفحة وجهه جرحا . وإذا ثبت أن الشهداء أحياء ، إما أرواحهم ، وإما أجسادهم وأرواحهم ، فاختلف في مستقرها . فقيل : قبورهم يرزقون فيها . وقيل : في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها ، قاله أبو بشار السلمي . وقيل : في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى ، قاله قتادة . وقيل : يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها ، وليسوا فيها ، قاله مجاهد . وروي عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ابن عباس " . وروي : في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا . وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - : " الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء " . وإذا صح ذلك فهي أحوال لطوائف من الشهداء ، أو في أوقات مختلفة . والجمهور : على أنهم في الجنة ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، وأنهم في قناديل من ذهب ، وأنهم في قبة خضراء لأم حارثة : " إنهم في الفردوس " . ومذهب أهل السنة : أن . الأرواح لا تفنى ، وأنها باقية بعد خروجها من البدن . فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين ، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين
والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرزق ، فضلهم الله بذلك ، وقال تعالى في حق الكفار : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) . وقال الحسن : ، تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشيا ، فيصل إليهم الوجع . وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم ، وإن كانت في حجم الذرة . ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرها ، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد ، اتباعا للمفسرين ، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية ، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله : ( الشهداء أحياء عند الله بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ، حيث ذكر العندية والرزق ، وظاهر قوله : ( لمن يقتل في سبيل الله ) ، العموم . وقيل : نزلت في شهداء بدر ، كانوا أربعة عشر ، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء ، فهم مغبوطون لا محزون عليهم .
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب . قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء . خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطمينا لقلوبهم ; لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجئ ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخبارا بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزا لمن أسلم مريدا وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملا لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، مع ما ابتلوا به . وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاما أنه أجاب دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات . وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيرا وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخبارا بالمغيبات . وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا [ ص: 450 ] بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم .
وهذه الآية لها تعلق بقوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) الآية ، وقبلها : ( واشكروا لي ) ، والشكر يوجب زيادة النعم ، والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا ، وتوجيهه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ولذلك يوجب الشكر ، والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولا فشكر ، وابتلي ثانيا فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه . كما روي عنه - عليه السلام - : " الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر " . بشيء : متعلق بقوله : ( ولنبلونكم ) ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروبا من كل واحد مما بعده . وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون " من " في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص . والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا . والخوف : خوف العدو ، قاله ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب . وقال ابن عباس : هو خوف الله تعالى . والجوع : القحط ، قاله الشافعي ، عبر بالمسبب عن السبب . وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضا . وقال ابن عباس : هو صيام شهر رمضان . ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك . وقال الشافعي : بالصدقات . والأنفس : بالقتل والموت . وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب . والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات . وقال الشافعي القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : بظهور العدو عليهم . وقال : والثمرات : موت الأولاد ; لأن ولد الرجل ثمرة قلبه . وفي حديث الشافعي أبي موسى ، ؟ . أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : " أقبضتم ثمرة فؤاده "
وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدو ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدو لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد . انتهى كلامه . وعطف " ونقص " على قوله : " بشيء " ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفا على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص . ومن الأموال : متعلق بنقص ; لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص . وتكون من لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض . وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات . وأتى بالجملة الخبرية مقسما عليها ، تأكيدا لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه . وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين . وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولا بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه . ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير ، وهو صوم رمضان . ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعد " ونقص " فبدأ أولا بالأموال ، ثم ترقى إلى الأنفس . وأما " والثمرات " ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ; لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها . الشافعي
( وبشر الصابرين ) : خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، [ ص: 451 ] أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبرا محمودا شرعا ، فهو مندرج في الصابرين . قالوا : والصبر من خواص الإنسان ; لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني . وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع . فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة . وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أساميه باختلاف المكروه . ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع . وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر . وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن . وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر . وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتمانا ، ويضاده الإعلان . وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهدا ، ويضاده الحرص . وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره . وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبرا ، فقال : ( والصابرين في البأساء ) ، أي المصيبة ، والضراء أي الفقر وحين البأس أي المحاربة . قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابرا ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلوانا .
( الذين إذا أصابتهم مصيبة ) : يجوز في : " الذين " أن يكون منصوبا على النعت للصابرين ، وهو ظاهر الإعراب ، أو منصوبا على المدح ، فيكون مقطوعا ، أو مرفوعا على إضمار هم ، على وجهين : إما على القطع ، وإما على الاستئناف ، كأنه جواب لسؤال مقدر ، أي : من الصابرون ؟ قيل : هم الذين إذا . وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ ، وأولئك عليهم خبره ، وهو محتمل . مصيبة : اسم فاعل من أصابت ، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه ، وصارت كناية عن الداهية ، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل . وأصابتهم : مصيبة من التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسما والأخرى فعلا ، ومنه : ( أزفت الآزفة ) ; ( إذا وقعت الواقعة ) . والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل ، صغرت أو كبرت ، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى مصيبة . وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه . والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم . وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا ، أتدل على التكرار ، أم وضعت للمرة الواحدة ؟ قولان للنحويين .
( قالوا إنا لله ) : " قالوا " : جواب إذا ، والشرط وجوابه صلة للذين . " وإنا " : أصله إننا ; لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل ، فحذفت نون من إن . وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية ; لأنها ظرف ، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت ، فقالوا : إن زيد لقائم ، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال ، فلذلك عملت ، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة ; لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل ; لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير . ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله ، فهو المتصرف فينا بما يريد من الأمور .
( وإنا إليه راجعون ) : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب ، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له . وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال : أحدها : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا . الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه ، ( وإنا إليه راجعون ) يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء . الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب . الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله : ( إنا لله ) ، وإقرار بالهلكة في قوله : ( وإنا إليه راجعون ) .
وفي المنتخب ما ملخصه : أن إسناد الإصابة إلى المصيبة ، لا إلى الله تعالى ، ليعم ما كان من الله وما كان من غيره . فما كان من الله فهو داخل تحت قوله : ( إنا لله ) ; لأن في الإقرار بالعبودية تفويضا للأمور إليه ، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف [ ص: 452 ] منه ، ولا يتعدى ، كأنه في الأول ( إنا لله ) ، يدبر كيف يشاء ، وفي الثاني : ( وإنا إليه ) ، ينصف لنا كيف يشاء . وقيل : ( إنا لله ) ، دليل على الرضا بما نزل به في الحال ، ( وإنا إليه راجعون ) ، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك . واشتملت الآية على فرض ونفل . فالفرض : التسليم لأمر الله ، والرضا بقدره ، والصبر على أداء فرائضه . والنفل : إظهار القول ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله .
( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) ، أولئك مبتدأ ، وصلوات : ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور ، أي : أولئك مستقرة عليهم صلوات ، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد ، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ ، والجار والمجرور في موضع خبره . والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ; لأنه يكون إخبارا عن المبتدأ بالجملة . والصلاة من الله : المغفرة ، قاله ; أو الثناء ، قاله ابن عباس ابن كيسان ، أو الغفران والثناء الحسن ، قاله . والرحمة : قيل هي الصلوات ، كررت تأكيدا لما اختلف اللفظ ، كقوله ( الزجاج رأفة ورحمة ) . وقيل : " الرحمة " : كشف الكربة وقضاء الحاجة . وقال عمر : نعم العدلان ونعم العلاوة ، وتلا : ( الذين إذا أصابتهم ) الآية ، يعني بالعدلين : الصلوات والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء . وفي قوله : أولئك ، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة ، كما جاء : ( أولئك على هدى من ربهم ) . والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله : ( عليهم صلوات ) بحرف على ، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك ، قد غشيتهم وتجللتهم ، وهو أبلغ من قوله لهم . وجمع صلوات ، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة ، بل صلاة بعد صلاة ، ونكرت لأنه لا يراد العموم . ووصفها بكونها من ربهم ، ليدل بمن على ابتدائها من الله ، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدئ من الله تعالى .
ويحتمل أن تكون من تبعيضية ، فيكون ثم حذف مضاف ، أي " صلوات من صلوات ربهم " . وأتى بلفظ الرب ، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به . وإن كان أريد بالرحمة الصلوات ، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة ; لأنها قد تقيدت . وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات ، فيقدر : ورحمة منه ، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم . ويحتمل أن يكون : ( من ربهم ) ، متعلقا بقوله : ( عليهم ) ، فلا يكون صفة ، بل يكون معمولا للرافع لصلوات ، وترتب على مقام الصبر ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى ، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل .
وقد جاء في السنة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه " . وفي حديث آخر : " " . وحديث من تذكر مصيبته ، فأحدث استرجاعا ، وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب مشهور ، حيث أخلفها الله عن أم سلمة أبي سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن جبير : ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة ، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب . ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف ؟ ( ياأسفى على يوسف ) .
( وأولئك هم المهتدون ) : إخبار من الله عنهم بالهداية ، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبدا . وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه ، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة . وبدئ بالجملة الأولى ; لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله ، وأخرت هذه ; لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة ; لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته . وأكد بقوله : " هم " . ، وبالألف واللام ، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل ، ليدل على الثبوت ; لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل ، بل هي وصف ثابت . وقيل : " المهتدون " في استحقاق الثواب وإجزال الأجر . وقيل : إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن . وقيل : إلى الاسترجاع . وقيل : إلى الحق والصواب ، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في [ ص: 453 ] اللفظ ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان ، ونظير هاتين الجملتين قوله ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) . والكلام في إعراب : " هم المهتدون " ، كالكلام على : " هم المفلحون " ، وقد تقدم .
( وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ) مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج - صلى الله عليه وسلم - شطر المسجد ، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة ، حيث كان النسخ صعبا على النفوس ، حيث ألفوا أمرا ، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره ، وخصوصا عند من لا يرى النسخ . فلذلك كرر وأنه تعالى أمر بذلك وفعله ; لانتفاء حجج الناس ; لأن ذلك إذا كان بأمر منه تعالى لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله ; لأن أمر الله ثانيا كأمره أولا . وهو قد أمر أولا باستقبال بيت المقدس ، وأمر آخرا باستقبال الكعبة . فلا فرق بين الأمرين ، ولا حجة لمن خالف . واستثنى من الناس من ظلم ; لأنه لا تنقطع حججه وإن كانت باطلة ، ولا تشغيباته وتمويهاته ; لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به ، ثم أمرهم تعالى بخشيته ، ونهاهم عن خشية الناس ; لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه . وعطف على تلك العلة علة أخرى ، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم ، والرجوع إلى المألوف ، ولتحصيل الهداية . وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم ، إذ هذه النعمة هي الأصل ، وهي منبع النعم والهداية ، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل ، وهي تلاوة الكتاب عليهم : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس ، والحياة السرمدية في الناس ؟
أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وقال آخر :محل العلم لا يأوي ترابا ولا يبلى على الزمن القديم