تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
( شهود ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم . وقرأ الجمهور : ( نقموا ) بفتح القاف ، ، وزيد بن علي وأبو حيوة ، : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : ( وابن أبي عبلة هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ) وكقول قيس الرقيات :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحا حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر :
ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عتاق الطير شكل عيونها
وفي المنتخب : إنما قال ( إلا أن يؤمنوا ) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يديموا على إيمانهم . انتهى . وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السماوات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا ؛ لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي .
( والله على كل شيء شهيد ) وعيد لهم أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم . والظاهر أن ( الذين فتنوا ) عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذابا لكفرهم ، وعذابا لفتنتهم . وقال : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم . ( فلهم ) في الآخرة ( الزمخشري عذاب جهنم ) بكفرهم ( ولهم عذاب الحريق ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . انتهى . وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوزه ؛ لأن في الآية ( ثم لم يتوبوا ) وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر . وقال ابن عطية : ( ثم لم يتوبوا ) يقوي أن الآيات في قريش ؛ لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم . وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن . انتهى . وكذلك قوله : ( إن الذين آمنوا ) المراد به العموم لا المطروحون في النار ، والبطش : الأخذ بقوة ( يبدئ ويعيد ) قال ابن زيد والضحاك : يبدئ الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر . وقال : عام في جميع الأشياء ، أي كل ما يبدأ وكل ما يعاد . وقال ابن عباس : يبدئ العذاب ويعيده على الكفار ، ونحوه عن الطبري قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ، ثم يعيدهم خلقا جديدا . وقرئ : ( يبدأ ) من بدأ ثلاثيا ، حكاه ابن عباس أبو زيد .
ولما ذكر شدة بطشه ذكر كونه ، غفورا ساترا لذنوب عباده ، ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم ، وهاتان صفتا فعل . والظاهر أن الودود مبالغة في الواد ، وعن : المتودد إلى عباده بالمغفرة . وحكى ابن عباس عن القاضي المبرد أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد : إسماعيل بن إسحاق
[ ص: 452 ]
وأركب في الروع عريانة ذلول الجماع لقاحا ودودا
أي : لا ولد لها تحن إليه . وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون ( ذو العرش ) خص العرش بإضافة نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات . وقرأ الجمهور : ( ذو ) بالواو ، وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك . وقال القفال : ( ذو العرش ) ذو الملك والسلطان . ويجوز أن يراد بالعرش السرير العالي ، ويكون خلق سريرا في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه . انتهى . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد وابن وثاب ، والأعمش والمفضل عن عاصم ، والأخوان : ( المجيد ) بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا . ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون ( المجيد ) بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارا عن هو ، فيكون ( فعال ) خبرا . ويجوز أن يكون ( الودود ذو العرش ) صفتين للغفور ، " وفعال " خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال ؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه .
( هل أتاك حديث الجنود ) تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم ، والجنود : الجموع المعدة للقتال ( فرعون وثمود ) بدل من الجنود ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن ، وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضا ، ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله :
ألم تر أن الله أهلك تبعا وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى وفرعون جبارا طغى والنجاشيا
وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم . ( بل الذين كفروا ) أي من قومك ، ( في تكذيب ) حسدا لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم . ( والله من ورائهم محيط ) أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا ، والمعنى : دنو هلاكهم ، ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان صلى الله عليه وسلم ، قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : ( بل هو قرآن ) أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه ، وقرأ الجمهور : ( قرآن مجيد ) موصوف وصفة ، وقرأ ابن السميقع : ( قرآن مجيد ) بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر : ابن الأنباري
ولكن الغنى رب غفور
معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور . انتهى . وعلى هذا أخرجه ، وقال الزمخشري ابن عطية : وقرأ اليماني : ( قرآن مجيد ) على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد . انتهى . ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع ( مجيد ) واحدا ، وهذا أولى لتوافق القراءتين ، وقرأ الجمهور : ( في لوح ) بفتح اللام ، ( محفوظ ) بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء ، وقرأ ابن يعمر وابن السميقع : بضم اللام ، قال ابن خالويه : اللوح : الهواء . وقال : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح [ ص: 453 ] المحفوظ من وصول الشياطين إليه . انتهى . وقرأ الزمخشري ، الأعرج ، وزيد بن علي وابن محيصن ، ونافع بخلاف عنه : ( محفوظ ) بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : ( وإنا له لحافظون ) ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل .