( من رجالكم ) الخطاب للمؤمنين ، وهم المصدر بهم الآية ، ففي قوله : ( من رجالكم ) دلالة على أنه لا يستشهد الكافر ، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك أبو حنيفة ، وإن اختلفت مللهم ، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ ، واشتراط الذكورة في الشاهدين ، وظاهر الآية أنه : يجوز شهادة العبد ، وهو مذهب شريح ، ، وابن سيرين ، وابن شبرمة ، وقيل عنه : يجوز شهادته لغير سيده ، وروي عن وعثمان البتي علي أنه كان يقول : شهادة العبد على العبد جارية جائزة ، وروى المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه ، وروي عن أنس أنه قال : ما أعلم أن أحدا رد شهادة العبد ، وقال الجمهور : [ ص: 346 ] أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، في إحدى الروايتين ، وابن شبرمة ومالك ، وابن صالح ، ، وابن أبي ليلى : لا تقبل شهادة العبد في شيء . وروي ذلك عن والشافعي علي ، ، وابن عباس والحسن .
وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر ، وبه قال ، الثوري وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة ، ، وابن شبرمة . وروي ذلك عن والشافعي عثمان ، ، وابن عباس وابن الزبير . وقال : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وروي ذلك عن ابن أبي ليلى علي ، قال مالك : تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه .
وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين ، فلو كان الشاهد أعمى ، ففي جواز شهادته خلاف ، ذهب أبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال ، وروي ذلك عن علي ، والحسن ، ، وابن جبير ، وقال وإياس ابن معاوية ، ابن أبي ليلى وأبو يوسف ، : إذا علم قبل العمى جازت ، أو بعده فلا . وقال والشافعي زفر : لا يجوز إلا في النسب يشهد أن فلان بن فلان ، وقال شريح : شهادته جائزة ، وقال والشعبي مالك : يجوز وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه ، وإن شهد بزنا أو حد قذف لم تقبل شهادته ، ولو كان الشاهد أخرس ، فقيل : تقبل شهادته بإشارة ، وسواء كان طارئا أم أصليا ، وقيل : لا تقبل . وإن كان أصم ، فلا تقبل في الأقوال ، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس .
ولو شهد بدوي على قروي ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلا في الجراح ، وروى ابن القاسم عنه : لا تجوز في الحضر إلا في وصية القروي في السفر وفي البيع .
( فإن لم يكونا رجلين ) الضمير عائد على الشهيدين أي : فإن لم يكن الشهيدان رجلين ، والمعنى أنه : إن أغفل ذلك صاحب الحق ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وكان على هذا التقدير ناقصة ، وقال قوم : بل المعنى : فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا لا يتم إلا على اعتقاد أن الضمير في ( يكونا ) عائد على شهيدين ، بوصف الرجولية ، وتكون كان تامة ، ويكون ( رجلين ) منصوبا على الحال المؤكد ، كقوله : ( فإن كانتا اثنتين ) على أحسن الوجهين .
( فرجل وامرأتان ) ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالشاهد ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فرجل وامرأتان يشهدون ، أو فاعل ، أي : فليشهد رجل ، أو مفعول لم يسم فاعله ، أي : فليستشهد ، وقيل : المحذوف فليكن ، وجوز أن تكون تامة ، فيكون رجل فاعلا ، وأن تكون ناقصة ، ويكون خبرها محذوفا ، وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصارا ولا اختصارا . وقرئ شاذا ( وامرأتان ) بهمزة ساكنة ، وهو على غير قياس ، ويمكن أن سكنها تخفيفا لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر :
يقولون جهلا ليس للشيخ عيل لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
يريد : وأنا رقوب ، قيل : خفف الهمزة بإبدالها ألفا ثم همزة بعد ذلك ، قالوا : الخأتم ، والعأم . وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات ، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلا أم بضعا ، أم منافع أم دم عمد ، فمن ادعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلا بدليل .
وقال : لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل ، ويجوز في الوصية بالمال . وقال الشافعي الليث : تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه . وقال : لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح . وقال الأوزاعي : لا تجوز شهادتهن في الحدود . وقال الحسن بن حيي : تجوز في كل شيء إلا الحدود . وقال الثوري مالك : لا تجوز في الحدود ولا القصاص ، ولا الطلاق ولا النكاح ، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق . وقال الحسن ، والضحاك : لا تجوز [ ص: 347 ] شهادتهن إلا في الدين . وقال عمر ، وعطاء ، : تجوز في الطلاق . وقال والشعبي شريح : تجوز في العتق ، وقال عمر ، وابنه عبد الله : تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح . وقال علي تجوز في العقد . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، : لا تقبل وعثمان البتي ، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق . وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقه . شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص
وأما قبول شهادتهن مفردات فلا خلاف في قبولها في : الولادة ، والبكارة ، والاستهلال ، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء ، وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال ، إذ هو عنده من باب الإخبار ، وكذلك شهادة القابلة مفردة .
( ممن ترضون من الشهداء ) قيل : هذا في موضع الصف لقوله : ( فرجل وامرأتان ) وقيل : هو بدل من قوله : ( رجالكم ) على تكرير العامل ، وهما ضعيفان ؛ لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين ، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين ، فعري عنه ( رجل وامرأتان ) والذي يظهر أنه متعلق بقوله : ( واستشهدوا ) أي : واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ، ليكون قيدا في الجميع ، ولذلك جاء متأخرا بعد ذكر الجميع ، والخطاب في ( ترضون ) ظاهره أنه للمؤمنين ، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى ، فيدل هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم . وقال ابن بكير وغيره : الخطاب للحكام ، والأول أولى لأنه الظاهر ، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام ، ولكن يجيء الخطاب عاما ويتلبس به بعض الناس ، وقيل : الخطاب لأصحاب الدين .
واختلفوا في تفسير قوله : ( ممن ترضون ) فقال : من أهل الفضل والدين والكفاءة ، وقال ابن عباس : ممن لم يطعن في فرج ولا بطن ، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلا ، ولم يطعن في نسب . وروي : من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن ، ومعناه : لا ينسب إلى ريبة ، ولا يقال : إنه ابن زنا . وقال الشعبي الحسن : من لم تعرف له خربة . وقال النخعي : من لا ريبة فيه . وقال الخصاف : من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر .
وقيل : المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال : أن يكون حرا ، بالغا ، مسلما ، عدلا ، عالما بما يشهد به ، لا يجر بشهادته منفعة لنفسه ، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة ، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وذكر عن بشر بن الوليد أبي يوسف : أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ؛ لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل ، ولا شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلا ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شتام الناس والجيران ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو مجانة أو فسقا ، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور حتى يقولوا : سمعناه يشتم . متهم بسب الصحابة
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : تقبل ، إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية . وقال شهادة أهل الأهواء العدول محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ؛ لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا . وروي عن أبي حنيفة أنه : لا يجوز شهادة البخيل . وعن لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ، ولا التجار الذين يركبون البحر ، وعن إياس بن معاوية بلال بن أبي بردة ، وكان على البصرة ، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته ، ورد شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته ، ورد عمر بن عبد العزيز شريح شهادة [ ص: 248 ] رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر ، فدعي : يا ربيعة ، فلم يجب ، فدعي : يا ربيعة الكويفر ، فأجاب ، فقال له شريح : دعيت باسمك فلم تجب ، فلما دعيت بالكفر أجبت فقال : أصلحك الله ، إنما هو لقب ، فقال له : قم ، وقال لصاحبه : هات غيره . وعن : لا يجوز شهادة أصحاب الحمر ، يعني : النخاسين . وعن أبي هريرة شريح : لا يجيز شهادة صاحب حمام ، ولا حمال ، ولا ضيق كم القباء ، ولا من قال : أشهد بشهادة الله عز وجل ، وعن محمد : لا تقبل ، ولا شهادة من ظهرت منه مجانة ، ولا لاعب بالحمام يطيرهن ، ورد شهادة مخنث شهادة الفقير ، وقال : لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال . ابن أبي ليلى
وقال مالك : لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير ، وتجوز في الشيء التافه . وعن : إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته ، وعنه : إذا كان أكثر أمره الطاعة ، ولم يقدم على كبيرة ، فهو عدل ، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون ، والسمت الحسن ، وحفظ الحرمة ، وتجنب السخف ، والمجون ، لا تفسر بنظافة الثوب ، وفراهة المركوب ، وجودة الآلة ، والشارة الحسنة ؛ لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين . الشافعي
واختلفوا في حكم ؟ ففي كتاب من لم تظهر منه ريبة ، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد عمر لأبي موسى : والمسلمون عدول ، بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا أو قرابة ، وكان الحسن ، لما ولي القضاء ، يجيز شهادة المسلمين إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد . وقال ابن شبرمة : إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السر والعلانية . وقال محمد ، وأبو يوسف : يسأل عنهم ، وإن لم يطعن فيهم في السر والعلانية ، وقال مالك : لا يقضى بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر . وقال الليث : إنما كان الوالي يقول للخصم : إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به ، وإلا أجزنا شهادتهم عليك . وقال : يسأل عنه في السر ، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية . الشافعي
وأما ما ذكر من اعتبار إذا كان عدلا ، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان نفي التهمة عن الشاهد إلا ما حكي عن البتي ، قال : تجوز شهادة الولد لوالديه ، والأب لابنه وامرأته ، وعن شهادة الشاهد لولده ووالده أنه أجاز شهادة رجل لابنه . وذهب إياس بن معاوية أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك ، ، والأوزاعي والليث إلى أنه : لا يجوز . وعن شهادة أحد الزوجين للآخر أبي حنيفة : لا تجوز ، وتجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره . وقال شهادة الأجير المشترك له مالك : لا تجوز إلا أن يكون مبرزا في العدالة . وقال شهادة أجير لمن استأجره : لا تجوز مطلقا . وقال الأوزاعي : تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة . الثوري
ومن وردت شهادته لمعنى ، ثم زال ذلك المعنى ، فهل تقبل تلك الشهادة فيه ؟ قال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تقبل إذا ردت لفسق أو زوجية ، وتقبل إذا ردت لرق أو كفر أو صبي . وقال مالك : لا تقبل إن ردت لرق أو صبي . وروي عن مثل هذا . عثمان بن عفان
وظاهر الآية : أن ، ممن ترضون ، فلا يقضى بشاهد واحد ويمين ، وهو مذهب الشهود في الديون رجلان ، أو رجل وامرأتان أبي حنيفة وأصحابه ، ، وابن شبرمة والثوري والحكم ، ، وبه قال والأوزاعي عطاء ، وقال : أول من قضى به عبد الملك ابن مروان ، وقال الحكم : أول من حكم به معاوية .
واختلف عن فقيل : قال : هذا شيء أحدثه الناس لا بد من شهيدين ، وقال أيضا : ما أعرفه ، وإنها البدعة ، وأول من قضاه الزهري معاوية ، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك ، وأتباعهما ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : يحكم به في الأموال خاصة ، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة ، وهو قول ، أبي بن كعب ومعاوية ، وأبي سلمة ، وأبي الزياد ، وربيعة .