والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد " .
والأذلة : جمع ذليل . وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين . والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب . خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس . وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم ، ومائتان وستة وثلاثون من علي بن أبي طالب الأنصار وصاحب رايتهم . وقيل : ثلاثمائة وستة عشر رجلا . وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا . وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا . وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل . وما أحسن قول الشاعر : سعد بن عبادة
وقائلة ما بال أسرة عاديا تفانت وفيها قلة وخمول تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
[ ص: 48 ] والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام . وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرا من الهجرة .
( فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) أمر بالتقوى مطلقا . وقيل : في الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترجيه الشكر إما على الإنعام السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الإنعام المرجو أن يقع . فكأنه قيل : لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها ، وضع الشكر موضع الإنعام ؛ لأنه سبب له .
( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى ) ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور ، فيكون " إذ " معمولا لـ " نصركم " . وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله : ( ولقد نصركم الله ببدر ) معترضا بين الكلامين ؛ لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال . وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف . والكفار يوم بدر كانوا ألفا ، والمسلمون على الثلث . فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة . وقال : ويأتوكم من فورهم ، أي الإمداد . ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم . قال : ( فإن قلت ) كيف يصح أن يقوله لهم يوم الزمخشري أحد ، ولم ينزل فيه الملائكة ؟ ( قلت ) قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم . فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا ، حيث خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت . وإنما قدم الوعد بنزول الملائكة ؛ لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ، ويثقوا بنصر الله . انتهى كلامه .
وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ، ليس مجمعا عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال . وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا . . . إلى آخره ، المشروط بالصبر والتقوى هو [ ص: 49 ] الإمداد بخمسة آلاف . أما الإمداد الأول وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف أنه وعد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا الوعد مشروطا بالثبوت في تلك المقاعد . فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط . انتهى . ولا خفاء بضعف هذا الجواب . قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففر الناس وولوا مدبرين ، فلم يهدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة . وقال ابن زيد : لم يصبروا . وقال عكرمة : لم يصبروا ولم يتقوا يوم أحد ، فلم يمدوا . ولو مدوا لم ينهزموا . وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام ، ولأن قلة العدد والعدد كان يوم بدر ، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج ، ولأن الوعد بثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله . وإنما حصل يوم بدر ، والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولا بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت ثلاثة آلاف . أو مدوا بألف أولا ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار . فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين .
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الزائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة . ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف . أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف . ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية . وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت . ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه . ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله . وذكر ابن عطية أن قال : لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم الشعبي بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - مددا ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة . قال : وخالف الناس في هذه المقالة ، وذكر الشعبي أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه : وأجمع أهل التفسير والسير على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم [ ص: 50 ] بدر ، وأنهم قاتلوا الكفار . ثم قال : وأما فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججا ، ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوة ؛ لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك ، يعني بإنزال الملائكة . ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة . فقيل : بالقتال . وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار . والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافيا . انتهى كلامه . أبو بكر الأصم
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ؛ لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة . وكان حرف النفي " لن " الذي هو أبلغ في الاستقبال من " لا " إشعارا بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة .
وبلى : إيجاب لما بعد " لن " ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية . وفي مصحف أبي : ألا يكفيكم . انتهى . ومعظمه من كلام . الزمخشري
وقال ابن عطية : ألن يكفيكم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة ؟ ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين . وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) . انتهى . وقال 103 أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب . فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألن يكفيكم " . قال ابن عيسى : والكفاية مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال . انتهى .
وقرأ الحسن : بثلاثه آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف . قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ؛ لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع . فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف : قالا ، يريدون قال ، ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت . ومن ذلك في الشعر قول الشاعر :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيانة مثل العتيق المكرم
يريد ينبع فمطل . ومنه قول الآخر :
أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكل ، فمطل . ومنه قول الآخر :
فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح . قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة اثنان . انتهى كلامه . وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل . وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة . وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل ، وإنما هو نظير قولهم : ثلاثه اربعه ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال . ولأجل الوصل نقل ؛ إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل .
وقرئ شاذا " بثلاثة آلاف " بتكسين التاء [ ص: 51 ] في الوصل ، أجراه مجرى الوقف . واختلفوا في هذه التاء الساكنة ، أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي ؟ وهي لغة .
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنيا للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان . وقرأ : " منزلين " بتشديد الزاي وكسرها مبنيا للفاعل . وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنيا للفاعل أيضا ، والمعنى : ينزلون النصر . ابن أبي عبلة