قالوا : أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات ، ومضمرات ، ومستترات ; فالمظهرات : أسماء ذات وأسماء صفات ، وهذه كلها مشتقة ، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة ، وغير المشتق واحد وهو الله . وقد قيل : إنه مشتق ، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق ، بل اسم مرتجل دال على الذات . وأما المضمرات فأربعة : ( أنا ) في مثل : ( الله لا إله إلا أنا ) ، و ( أنت ) في مثل : ( لا إله إلا أنت سبحانك ) ، و ( هو ) في مثل : ( هو الذي خلق لكم ) ، و ( نحن ) في مثل : ( نحن نقص عليك ) . قالوا : فإذا تقرر هذا فـ ( الله ) أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات ، ولفظة ( هو ) من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته ; لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص ، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازا من الاشتراك ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو . فلفظة ( هو ) توصلك إلى الحق ، وتقطعك عما سواه ، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه ، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه . اختاره الجلة من المقربين مدارا لذكرهم ، ومنارا لكل أمرهم ; فقالوا : يا هو ; لأن لفظة ( هو ) إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته ، وهو اسم مركب من حرفين وهما : الهاء والواو ، والهاء أصل ، والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية ، والجمع في هما وهم ، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد . انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في ( هو ) بالنسبة إلى الله تعالى ، مقررا لما ذكروه ومعتقدا لما حبروه . ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية ، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة ، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة ، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ، وأن يجنبنا مسالك الغواية ، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب ، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين : السنة والكتاب .
و ( لكم ) متعلق بـ ( خلق ) واللام فيه ، قيل : للسبب ، أي لأجلكم ولانتفاعكم ، وقدر بعضهم : لاعتباركم . وقيل : للتمليك والإباحة ، فيكون التمليك خاصا ، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه . وقيل : للاختصاص ، وهو أعم من التمليك ، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولا من أجله ; لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي ; فالديني : النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ، ومن التذكير بالآخرة والجزاء ، وأما الدنيوي : فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك . وقد استدل بقوله : ( خلق لكم ) ، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها ، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة ، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه . وقد ذهب قوم إلى الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر ، فلا يقدم على شيء إلا بإذن . وذهب قوم إلى أن الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف .
وحكى أبو [ ص: 134 ] بكر بن فورك عن أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، فلا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب ، وإذا جعلنا اللام للسبب ، فليس المعنى أن الله فعل شيئا لسبب ، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب ، أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله : ( ابن الصائغ ما في الأرض جميعا ) جميع ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال ، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة . واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين ، قال : لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض .
وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا ، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا ، وانتصب ( جميعا ) على الحال من المخلوق ، وهي حال مؤكدة ; لأن لفظة ( ما في الأرض ) عام ، ومعنى ( جميعا ) العموم . فهو مرادف من حيث المعنى للفظة ( كل ) ; كأنه قيل : ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع في الزمان ، وهذا هو الفارق بين معا وجميعا . وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على ( مع ) ومن زعم أن المعني بقوله : ما في الأرض ، الأرض وما فيها ، فهو بعيد عن مدلول اللفظ ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ ، ومن قوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) ، فانتظم من هذين : الأرض وما فيها ، خلق الله ذلك لنا . وقال : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ، كما تذكر السماء ، ويراد بها الجهات العلوية ، جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية . الزمخشري
وقال بعض المنسوبين للحقائق : خلق لكم ليعد نعمه عليكم ، فتقتضي الشكر من نفسك لتطلب المزيد منه . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ; فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد . وقال ابن عطاء : خلق لكم ليكون الكون كله لك ، وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له . وقال بعض البغداديين : أنعم عليك بها ; فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم . وقال : أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق . الثوري
والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ ذاك ، فقيل : أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر ، وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم ، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ ، يدل على ذلك : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) ، الآية . .
( استوى ) أهل الحجاز على الفتح ، ونجد على الإمالة ، وقرئ في السبعة بهما ، ( وفي الاستواء هنا سبعة أقوال ) : أحدها : أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، وهو استعارة من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ، قال معناه الفراء ، واختاره ، وبين ما الذي استعير منه . الثاني : علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد ، قاله الزمخشري ، والتقدير : علا أمره وسلطانه ، واختاره الربيع بن أنس . الثالث : أن يكون ( إلى ) بمعنى ( على ) أي استوى على السماء ، أي : تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : الطبري
فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
الرابع : أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها ، والاستواء هو الاستقرار ، فيكون ذلك على حذف مضاف ، أي : ثم استوى أمره إلى السماء ، أي استقر ; لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء . قاله . والخامس : أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء . قاله الحسن البصري ابن كيسان [ ص: 135 ] ويأول المعنى إلى القول الأول . السادس : أن المعنى : كمل صنعه فيها ، كما تقول : استوى الأمر ، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه . السابع : أن الضمير في ( استوى ) عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدا يبعده قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور ، ولا يفسره سياق الكلام .
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث ، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء الله تعالى . ومعنى التسوية : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم : درهم سواء ، أي وازن كامل تام ، أو جعلهن سواء من قوله : ( إذ نسويكم برب العالمين ) أو تسوية سطوحها بالإملاس . والضمير في ( فسواهن ) عائد على السماء على أنها جمع سماوة ، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع ، ويكون مرادا به هنا الجمع . قال : والضمير في ( فسواهن ) ضمير مبهم . و ( الزمخشري سبع سماوات ) تفسيره كقولهم : ربه رجلا . انتهى كلامه . ومفهومه أن هذا الضمير يعود على ما بعده ، وهو مفسر به ، فهو عائد على غير متقدم الذكر . وهذا الذي يفسره ما بعده : منه ما يفسر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصة ، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها ، ومنه ما يفسر بمفرد ، أي غير جملة ، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما . والضمير المجرور برب ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين ، والضمير المجعول خبره مفسرا له ، والضمير الذي أبدل منه مفسره ، وفي إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو : ضربتهم قومك ، وهذا الذي ذكره ليس واحدا من هذه الضمائر التي سردناها ، إلا أن تخيل فيه أن يكون ( الزمخشري سبع سماوات ) بدلا منه ومفسرا له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه له بربه رجلا ، وأنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا ، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء ، وأنه سوى سبع سماوات عقيب استوائه إلى السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر : تسويته سبع سماوات . الزمخشري
وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوى سبع سماوات . وقد أعرب بعضهم ( سبع سماوات ) بدلا من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح ، نحو : أخوك مررت به زيد ، وأجازوا في ( سبع سماوات ) أن يكون منصوبا على المفعول به ، والتقدير : فسوى منهن سبع سماوات ، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ; أما من حيث اللفظ فإن ( سوى ) ليس من باب اختار ، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام ، وأما من حيث المعنى ; فلأنه يدل على أن السماوات كثيرة ، فسوى منهن سبعا ، والأمر ليس كذلك ، إذ المعلوم أن السماوات سبع . وأجازوا أيضا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى ، ويكون معنى سوى : صير ، وهذا ليس بجيد ; لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة ، ( فسواك فعدلك ) ، ( قادرين على أن نسوي بنانه ) . وأما جعلها بمعنى صير ، فغير معروف في اللغة . وأجازوا أيضا النصب على الحال ، فتلخص في نصب سماوات أوجه البدل باعتبارين ، والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال ، والمختار البدل - باعتبار عود الضمير على ما قبله - والحال ، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق .
وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل ، فمنهم من قال : ، ومنهم من قال : الأرض خلقت قبل السماء ، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى . والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعا لا غير ، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء ، وخلقت السماء بعدها ، [ ص: 136 ] ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات . وقال بعضهم : وإنما خلق السماوات سبعا ; لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة ، كأنه ضوعف سبع مرات . ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد ، لما في ذكرها من دليل المضاعفة . قال تعالى : السماء خلقت قبل الأرض ذرعها سبعون ذراعا ، إن تستغفر لهم سبعين مرة ، والسبعة تذكر في جلائل الأمور : الأيام سبعة ، والسماوات سبع ، والأرضين سبع ، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة : زحل ، والمشترى ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، والبحار سبعة ، وأبواب جهنم .
وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز ، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام ، وندر بعد لكن ، في قراءة أبي حمدون : لكن هو الله ربي ، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش ، شبه الكلمتان بالكلمة .
وهو بكل شيء عليم : وقرأ بتسكين ( وهو ) أبو عمرو والكسائي وقالون ، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل . ووقف يعقوب على ( وهو ) بالهاء نحو : وهوه .
( بكل ) متعلق بقوله : عليم .
وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم ، أو بنفسه . وأما حالة التأخير فبنفسه ; لأنه من فعل متعد ، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة ، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في فعلها ولا في اسم الفاعل ، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي إما أن يكون فعله متعديا بنفسه ، أو بحرف جر ، فإن كان متعديا بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو : زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا ; لأن ( صبر ) يتعدى بعلى ، وزهد يتعدى بفي . وإن كان متعديا بنفسه فإما أن يكون ما يفهم علما وجهلا ، أو لا . إن كان مما يفهم علما أو جهلا تعدى المثال بالباء نحو : زيد عليم بكذا ، وجهول بكذا ، وخبير بذلك ، وإن كان لا يفهم علما ولا جهلا فيتعدى باللام نحو قوله تعالى : ( فعال لما يريد ) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو ، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسها ; لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل ، وأفعل التفضيل حكمه هكذا . قال تعالى : ربكم أعلم بكم ، وقال الشاعر :
أعطى لفارهة حلو مراتعها
وقال :
أكر وأحمى للحقيقة منهم
فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله تعالى : ( إن ربك هو أعلم من يضل ) ، وقول الشاعر :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل .
( شيء ) قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء . فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهرا ، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفادا من دليل آخر غير هذه الآية ( عليم ) قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة ، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام ، وهذان للمبالغة . وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة ، ولا يجوز وصفه به تعالى . والمبالغة بأحد أمرين : إما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر ، وإما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف . ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى ; لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه ، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كليه وجزئيه ، دقيقه وجليله ، معدومه وموجوده ، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة ، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم ; لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء ، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء . وقال بعض الناس : العليم من كان علمه من ذاته ، والعالم من كان علمه متعديا من غيره ، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم ، ولم يكن علمه بتعلم .
وفي تعميم قوله تعالى : بكل شيء عليم [ ص: 137 ] رد على ، تعالى الله عن ذلك . وقالوا : علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحدا يعلم به جميع المعلومات ، وبأنه لا يتغير بتغيرها ، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر ، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله ، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم ، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية . وفي قولهم : لا يشغله علم عن علم ، يريدون : معلوم عن معلوم ; لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر . من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات
وتضمن قوله تعالى : إن الله لا يستحيي إلى آخر قوله : وهو بكل شيء عليم أن ما ضرب به المثل في كتابه : من مستوقد النار ، والصيب ، والذباب ، والعنكبوت ، وما يجري مجرى ذلك ، فيه عجائب من الحكم الخفية ، والجلية ، وبدائع الفصاحة العربية ، وموافقة المثل لما ضرب به ، وأنه لا يحسن في مثله الأمثلة ، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ، ومدح من عرف أن ذلك حق ، وذم من أنكره وعابه ، وأن في ضربه هدى لمن آمن ، وضلالا لمن صد عنه ، وذم من نقض عهد الله وقطع ما يجب أن يوصل ، وأفسد في الأرض ، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه ، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادر على إحيائهم بعد الموت ، كما كان قادرا على إيجادهم بعد العدم ، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم ، وفي ذلك أشد التخويف والتهديد . ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم : من خلق الأرض المقلة ، والسماء المظلة ، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعون بها ويعتبرون بها ، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب ، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم . ثم ختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء .