وقرأ الجمهور برفع ( آدم ) ونصب الكلمات ، وعكس ابن كثير . ومعنى تلقي الكلمات لآدم : وصولها إليه ; لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال : فجاءت آدم من ربه كلمات . وظاهر قوله : كلمات ، أنها جملة مشتملة على كلم ، أو جمل من الكلام قالها آدم ، فلذلك قدروا بعد قوله : كلمات ، جملة محذوفة وهي : فقالها فتاب عليه . واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال ، وقد طولوا بذكرها ، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة ، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد : هي ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ، الآية .
وروي عن ، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " . وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه : " ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " وما قاله ابن مسعود يونس : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . وروي عن ابن عباس ووهب أنها : " سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك خير الغافرين " . وقال هي : " لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " . وحكى محمد بن كعب عن السدي أنه قال : " رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تنفخ في من روحك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى ، قال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة ؟ قال : " نعم " . وزاد ابن عباس قتادة في هذا : " وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك ؟ قيل له بلى ، قال : رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني ؟ قيل له : نعم ، فقال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قيل له : نعم " . وقال قتادة هي : " أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التواب الرحيم " . وقال ، قال : " يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني ؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك ، قال : " فكما كتبت علي فاغفر لي " . وقيل إنها : " سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت [ ص: 166 ] الغفور " . وقيل : رأى مكتوبا على ساق العرش عبيد بن عمير محمد رسول الله ، فتشفع بذلك فهي الكلمات . وقيل : قوله حين عطس : " الحمد لله " . وقيل : هي الدعاء والحياء والبكاء . وقيل : الاستغفار والندم والحزن . قال ابن عطية : وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات ، وهي : كن في كل واحدة منهن " ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود . انتهى كلامه .
( فتاب عليه ) : أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه ، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة ; لأنه هو المواجه بالأمر والنهي ، وهي تابعة له في ذلك ، فكملت القصة بذكره وحده ، كما جاء في قصة موسى والخضر ، إذ جاء ( حتى إذا ركبا في السفينة ) ، فحملاها بغير نول ، وكان مع موسى يوشع ، لكنه كان تابعا لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير ، أو اكتفى بذكر أحدهما ، إذ كان فعلهما واحدا ، نحو قوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) ، أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ) .
وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة ، وقد ذكرها في قوله : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) ، وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين ، وقد ضرب بهما المثل للكفار ; لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش . والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه ، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته ، وحواء ليست كذلك ، ولأن معصيتهما تكررت واستمر منهما الكفر والإصرار على ذلك ، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان ، وليست حواء كذلك لخفة ما وقع منها ، أو لرجوعها إلى ربها ، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع ، وهذا المعنى معقود فيهما ، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما ، وتوبة العبد رجوعه عن المعصية ، وتوبة الله على العبد رجوعه عليه بالقبول والرحمة . واختلف في ، فقال قوم : هي الندم ، أخذا بظاهر قوله ، صلى الله عليه وسلم : " التوبة المطلوبة من العبد " وقال قوم : شروطها ثلاثة : الندم على ما فات ، والإقلاع عنه ، والعزم على أن لا يعود . وتأولوا الندم توبة على معظم التوبة نحو : الحج عرفة ، وزاد بعضهم في الشروط ، برد المظالم إذا قدر على ردها ، وزاد بعضهم : المطعم الحلال ، وقال الندم توبة القفال : لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك ، وذلك أنه مأمور بالتوبة ، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه ، فيكون خائفا ، ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .
روي عن أن ابن عباس آدم وحواء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة . وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئا يفوت الحصر كثرة ، وقال : بلغني أن شهر بن حوشب آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى . وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء . وقرأ الجمهور ( إنه ) : بكسر الهمزة ، وقرأ نوفل بن أبي عقرب : أنه بفتح الهمزة ، ووجهه أنه فتح على التعليل ، التقدير : لأنه ، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة ، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع ، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت ، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها ، كما جاءت في : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة ) ، ( اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) ، ( وصل عليهم إن صلاتك ) ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها ، وقالوا : إن إن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه ، فإن قطع بأحد الأمرين ، فليس من مظانها ، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهرا ، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما ، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو : ( إنكم بعد ذلك لميتون ) ، [ ص: 167 ] إن شاء الله .
ولما دخلت للتأكيد في قوله : ( إنه هو التواب الرحيم ) ، قوي التأكيد بتأكيد آخر ، وهو لفظه : ( هو ) . وقد ذكرنا فائدته في قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) . وبولغ أيضا في الصفتين بعده ، فجاء التواب على وزن فعال ، والرحيم على وزن فعيل ، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة ، وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرجوع إلى الطاعة ، وإطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه ، ، وهو الكثير القبول لتوبة العبد ، أو الكثير الإعانة عليها . وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفا ومنكرا ، ووصف به تعالى نفسه ، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى . وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزا ، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب ، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد ، وذلك لاختلاف صلتيهما ، ألا ترى : ( فتاب عليه ) ، ( وتوبوا إلى الله ) ؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه ، ومن العبد هي الرجوع إلى طاعته تعالى ، لطلب ثواب ، أو خشية عقاب ، أو رفع درجات . وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة ; لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده ، وتقدم التواب لمناسبة ( فتاب عليه ) ، ولحسن ختم الفاصلة بقوله : ( الرحيم ) . وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها ، فأغنى ذلك عن إعادته . والتواب من أسمائه تعالى
( قلنا اهبطوا ) ، كرر القول ، إما على سبيل التأكيد المحض ; لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة ، فكرر تنبيها على ذلك ، أو لاختلاف متعلقيهما ; لأن الأول علق به العداوة ، والثاني علق بإتيان الهدى . وأما لا على سبيل التأكيد ، بل هما هبوطان حقيقة ، الأول من الجنة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض ، وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول : ( ولكم في الأرض مستقر ) ، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني ، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها ، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة ، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما .
( جميعا ) : حال من الضمير في اهبطوا ، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعا وأنها تقتضي التعميم في الحكم ، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط ، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط . وأبعد ابن عطية في قوله : كأنه قال هبوطا جميعا ، أو هابطين جميعا ، فجعله نعتا لمصدر محذوف ، أو لاسم فاعل محذوف ، كل منهما يدل عليه الفعل . قال : لأن جميعا ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره ; لأنه قال : أولا وجميعا حال من الضمير في اهبطوا . فإذا كان حالا من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولا ، فكيف يقدر ثانيا ؟ كأنه قال : هبوطا جميعا ، أو هابطين جميعا . فكلامه أخيرا يعارض حكمه أولا ، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالا حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره ، وأبعد غيره أيضا في زعمه أن التقدير : وقلنا اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعا ، فجعل ثم حالا محذوفة لدلالة جميعا عليها ، وعاملا محذوفا لدلالة اهبطوا عليه ، ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول : أي فقلنا : إما يأتينكم .
وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط ، وعلى تقدير أن يكون هبوطا ثانيا ، فقيل يخص آدم وحواء ; لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخصا بخطاب الجمع تشريفا لهما . وقيل : يندرج في الخطاب لأن بالإجماع ، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد ، والنون في يأتينكم نون التوكيد ، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن : ( فإما ترين ) ، ( وإما ينزغنك ) ، ( فإما نذهبن ) . قال إبليس مخاطب بالإيمان أبو العباس المهدوي : ( إن ) هي التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت ، يعني ما لم تدخل النون ، فما تؤكد أول الكلام ، والنون تؤكد آخره . وتبعه ابن عطية في هذا فقال : فإن هي للشرط ، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون [ ص: 168 ] المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون . انتهى كلامه . وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت ( إن ) بـ ( ما ) هو مذهب المبرد ، زعما أنها تلزم تشبيها بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو : والله لأخرجن . وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ( ما ) بعد ( إن ) ضرورة ، وذهب والزجاج والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة ، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها ، وإن كان الإثبات أحسن . وكذلك يجوز حذف ( ما ) وإثبات النون ، قال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجئ بـ ( ما ) انتهى كلامه . وقد كثر السماع بعدم النون بعد ( إما ) قال سيبويه الشنفرى :
فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفى ولا أتنعل
وقال آخر :
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الإخوان من شيمي
وقال آخر :
زعمت تماضر أنني إما أمت تسدد بنوها الأصاغر خلتي
والقياس يقبله ; لأن ( ما ) زيدت حيث لا يمكن دخول النون ، نحو قول الشاعر :
إما أقمت وإما كنت مرتحلا فالله يحفظ ما تبقي وما تذر
فكما جاءت هنا زائدة بعد ( إن ) فكذلك في نحو : إما تقم يأتينكم ، مبني مفتوح الآخر . واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء ، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين . وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ) .
( مني ) : متعلق بيأتينكم ، وهذا شبيه بالالتفات ; لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع ، أو المعظم نفسه ، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد . وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في : قلنا ، عند شرح قوله : ( وقلنا ياآدم اسكن ) ، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى ، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى ، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى . وفي قوله : مني ، إشارة إلى أن الخير كله منه ، ولذلك جاء : ( قد جاءكم برهان من ربكم وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء ) ، فأتى بكلمة : من ، الدالة على الابتداء في الأشياء ، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى ، وأتى بأداة الشرط في قوله : ( فإما يأتينكم مني هدى ) ، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه ، والذي أبهم زمان وقوعه ، وإتيان الهدى واقع لا محالة ; لأنه أبهم وقت الإتيان ، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطا فيه إتيان رسل منه ، ولا إنزال كتب بذلك ، بل لو لم يبعث رسلا ، ولا أنزل كتبا ، لكان الإيمان به واجبا ، وذلك لما ركب فيهم من العقل ، ونصب لهم من الأدلة ، ومكن لهم من الاستدلال ، كما قال :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
قال معناه غير إنشاد الشعر . الزمخشري
هدى : تقدم الكلام على الهدى في قوله : ( هدى للمتقين ) ، ونكره ; لأن المقصود هو المطلق ، ولم يسبق عهد فيه فيعرف . والهدى المذكور هنا : الكتب المنزلة ، أو الرسل ، أو البيان ، أو القدرة على الطاعة ، أو محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أقوال . فمن تبع : الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله : ( فإما يأتينكم ) . وقال السجاوندي : الجواب محذوف تقديره فاتبعوه . انتهى . فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده : ( فمن تبع هداي ) . وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن ( من ) في قوله : ( فمن تبع ) شرطية ، وأن جواب هذا الشرط هو قوله : ( فلا خوف ) ، فتكون الآية فيها [ ص: 169 ] شرطان ، وحكي عن أن قوله : ( فلا خوف ) جواب للشرطين جميعا ، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في ( كتاب التكميل ) ، ولا يتعين عندي أن تكون ( من ) شرطية ، بل يجوز أن تكون موصولة ، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه : ( والذين كفروا وكذبوا ) ، فأتى به موصولا ، ويكون قوله : ( فلا خوف ) جملة في موضع الخبر . وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا ، فإن الشروط المسوغة لذلك موجودة هنا . الكسائي
وفي قوله : ( فمن تبع هداي ) ، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به ، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه ، وهو الهدى ، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن . وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معرفا بالألف واللام ، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله : ( إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) ، والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف ، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف . وقرأ : ( هداي ) بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين ، كقراءة من قرأ : ومحياي ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف . وقرأ الأعرج عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر : ( هديي ) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم ، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء ; لأنه حرف لا يقبل الحركة ، وهي لغة هذيل ، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم ، وقال شاعرهم :
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل قوم مصرع
( فلا خوف عليهم ) : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين ، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن ، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين ، وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في ( ولا هم يحزنون ) ، فرفعوا للتعادل ، قال ابن عطية : والرفع على إعمالها إعمال ليس ، ولا يتعين ما قاله ، بل الأولى أن يكون مرفوعا بالابتداء لوجهين : أحدهما : أن إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) قليل جدا ، ويمكن النزاع في صحته ، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه ، والثاني : حصول التعادل بينهما ، إذ تكون ( لا ) قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما ، ووجه قراءة ومن وافقه أن ذلك نص في العموم ، فينفي كل فرد من مدلول الخوف ، وأما الرفع فيجوزه وليس نصا ، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر . وأما قراءة الزهري ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) وأنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال ، وقد ذكرنا ما في إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) فالأولى أن يكون مبتدأ كما ذكرناه ، إذا كان مرفوعا منونا ، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون عري من التنوين ; لأنه على نية الألف واللام ، فيكون التقدير : فلا الخوف عليهم ، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب : سلام عليكم ، بغير تنوين . قالوا : يريدون السلام عليكم ، ويكون هذا التخريج أولى ، إذ يحصل التعادل في كون ( لا ) دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين ، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس ، وقد سمع من ذلك بيت ، وتأوله النحاة وهو : للنابغة الجعدي
وحلت سواد القلب لا أنا باغيا سواها ولا في حبها متراخيا
وقد لحنوا أبا الطيب في قوله :
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
وكنى بقوله : ( عليهم ) عن الاستيلاء والإحاطة ، ونزل المعنى منزلة الجرم ، ونفى كونه معتليا مستوليا عليهم ، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم ؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال ، ولذلك قال بعض المفسرين : ليس في قوله : ( فلا خوف عليهم ) دليل على لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة ، [ ص: 170 ] إلا أنها مخففة عن المطيعين ، فإذا صاروا إلى رحمته ، فكأنهم لم يخافوا ، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ; لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي ، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله : ( ولا هم يحزنون ) . نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين
وفي قوله : ولا هم يحزنون إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن ، وأن غيرهم يحزن ، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان ( ولا يحزنون ) كافيا ، ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله : ( إن الذين سبقت لهم ) إلى قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة ) ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وفي قوله : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع ، ولا يذهب عنهم الحزن . وحكي عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال : أحدها : لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت ، الثاني : لا يتوقعون مكروها في المستقبل ، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال ، الثالث : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون فيما خلفه ، الرابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ، الخامس : لا خوف عليهم من عقاب ، ولا هم يحزنون على فوات ثواب ، السادس : إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوات محبوب ، السابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها ، الثامن : لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيها ، التاسع : أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن ، لا خوف عليهم فيها ولا حزن ، العاشر : ما قاله ابن زيد : لا خوف عليهم أمامهم ، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمنهم الله منه ، ثم سلاهم عن الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا ، الحادي عشر : لا خوف حين أطبقت النار ، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط ، فقيل لأهل الجنة والنار : خلود فلا موت ، الثاني عشر : لا خوف ولا حزن على الدوام .
وهذه الأقوال كلها متقاربة ، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ; لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك .
( والذين كفروا ) قسيم لقوله ( فمن تبع هداي ) وهو أبلغ من قوله : ومن لم يتبع هداي ، وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه ; لأن نفي الشيء يكون بوجوه ، منها : عدم القابلية بخلقة أو غفلة ، ومنها تعمد ترك الشيء ، فأبرز القسيم بقوله : ( والذين كفروا ) في صورة ثبوتية ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي ، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين : أن المراد هنا الشرك ، بقوله : وكذبوا بآياتنا ، وبآياتنا متعلق بقوله : وكذبوا ، وهو من إعمال الثاني ، إن قلنا : إن ( كفروا ) يطلبه من حيث المعنى ، وإن قلنا : لا يطلبه ، فلا يكون من الإعمال ، ويحتمل الوجهين ، والآيات هنا : الكتب المنزلة على جميع الأمم ، أو معجزات الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، أو القرآن ، أو دلائل الله في مصنوعاته ، أقوال . وأولئك : مبتدأ ، وأصحاب : خبر عنه ، والجملة خبر عن قوله : والذين كفروا ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلا وعطف بيان ، فيكون ( أصحاب النار ) إذ ذاك ، خبرا عن ( الذين كفروا ) وفي قوله : أولئك أصحاب النار دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار ، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة . وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه ، وهو صاحب الجنة ، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن ، وهو صاحب النار ، فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية ، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى ، فصار نظير قول الشاعر :
[ ص: 171 ]
وإني لتعروني لذاكر فترة كما انتفض العصفور بلله القطر
وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب ، وكأن فيها تكريرا وتوكيدا لذكر المبتدأ السابق . والصحبة معناها : الاقتران بالشيء ، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة ، وإن كان أصلها في اللغة : أن تنطلق على مطلق الاقتران ، والمراد بها هنا : الملازمة الدائمة ، ولذلك أكده بقوله : هم فيها خالدون ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية ، كما جاء في مكان آخر : أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها ، فيكون إذ ذاك لها موضع من الإعراب نصب ، ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله : أولئك أصحاب النار ، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران ، بل الخلود ، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب ، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي هو : أولئك ، فيكون قد أخبر عنه بخبرين : أحدهما مفرد ، والآخر جملة ، وذلك على مذهب من يرى ذلك ، فيكون في موضع رفع . وقد تقدم الكلام على الخلود ، وهل هو المكث زمانا لا نهاية له ، أو زمانا له نهاية ؟