وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
فأفرد بقوله : ( طاعم ) وجمع بقوله : ( جياع ) .وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأول ، قال الفراء : تقديره : من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفا لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه . وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلا : الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم . وهذه النكرة أصلها عند التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع . وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره عندهم : أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى . وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو . وعلى ما قررناه تأولوا ( أول كافر ) بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر . والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانيا أو آخرا ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد . ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن ( أول ) صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جدا . وزعم بعضهم أن ثم محذوفا معطوفا تقديره : ولا تكونوا أول كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر : سيبويه
من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع
لا يريد أن فيهم فحشا آجلا ، بل أراد لا فحش عندهم ، لا عاجلا ، ولا آجلا ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا [ ص: 178 ] أول كافر به مع المعرفة ; لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله . وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه . وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، قال تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون . والضمير في ( به ) عائد على الموصول في ( بما أنزلت ) وهو القرآن ، قاله ، أو على ابن جريج محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ودل عليه المعنى ; لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله ، أو على الموصول في ( لما معكم ) لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ; لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة . الزجاج
( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) . الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال :
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقال آخر :
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمنا ; لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ; لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهما بدينار معناه : أخذت الدينار بدلا عن الدرهم ، والمعنى ، والله أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة . ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمنا قليلا وأخذوا الآيات . قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كل ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء . انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمنا ومثمنا ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن . وقيل : بكتمان آياتي ، قاله . وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي . السدي
وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر والقول بعدها اختلفوا في المعني بقوله : ( ثمنا قليلا ) فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعا منه في شريعتهم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا عنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي جعل [ ص: 179 ] الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ; لأن ما حصل عوضا عن آيات الله كائنا ما كان لا يكون إلا قليلا ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل ) ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلا ، ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمنا قليلا ولا كثيرا ، فحذف لدلالة المعنى عليه . وقد استدل بعض أهل العلم بقوله : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) على منع جواز . وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم " ، وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجرا ، فقال : " إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله الزهري وأبي حنيفة الكراهة ; لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مر تفسيرها .
( وإياي فاتقون ) : الكلام عليه إعرابا كالكلام على قوله : ( وإياي فارهبون ) ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة . قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأما الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى ; لأن تعين العقاب قائم . انتهى كلامه . ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : ( فارهبون ) ، وقيل في هذا : ( فاتقون ) أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به . والأحسن أن لا يقيد ( ارهبون واتقون ) بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولا واضحا ، فكان المعنى : ارهبون إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشتريتم بآياتي ثمنا قليلا .
( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) : أي الصدق بالكذب ، قاله ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله ابن عباس مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة ; لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بصفة الدجال ، وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله ( بالباطل ) للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتميز الحق من الباطل ، وجوز أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كأن المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك . الزمخشري
( وتكتموا الحق ) : مجزوم عطفا على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهيا عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف . والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو ، وما جوزوه ليس بظاهر ; لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحبا على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم .