( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) قيل نزلت في بدر الصغرى . دعا الناس إلى الخروج ، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها ؛ فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت . فخرج ، وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده .
ومناسبة هذه الآية هي أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال ، واستطرد من ذلك إلى أن الموت يدرك كل أحد ، ولو اعتصم بأعظم معتصم ، فلا فائدة في الهرب من القتال ، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل ، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال ؛ عاد إلى أمر القتال . وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق ، ثم تعود إلى ذلك الأول .
والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه ؛ ومن زعم أن وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلا بقوله : ( وما لكم لا تقاتلون ) أو بقوله : ( فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) ، وهو محمول على المعنى على تقدير شرط ; أي إن أردت الفوز فقاتل . أو معطوفة على قوله : ( فقاتلوا أولياء الشيطان ) فقد أبعد . وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ويؤكده : لا تكلف إلا نفسك . وحمله على تقدير شرط ، قال أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد ، فإن الله هو ناصرك لا الجنود ؛ فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف ، انتهى . وسبقه إليه الزمخشري قال : أمره بالجهاد ؛ وإن قاتل وحده ; لأنه ضمن له النصرة . وقال الزجاج ابن عطية : لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما ؛ فالمعنى - والله أعلم - أنه خطاب للنبي في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ; أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ، ولو وحده . ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 309 ] وقول لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي .
ومعنى لا تكلف إلا نفسك ; أي لا تكلف في القتال إلا نفسك ؛ فقاتل ولو وحدك . وقيل المعنى إلا طاقتك ووسعك . والنفس يعبر بها عن القوة ، يقال : سقطت نفسه ; أي قوته . وقرأ الجمهور : ( لا تكلف ) خبرا مبنيا للمفعول ، قالوا : والجملة في موضع الحال ، ويجوز أن يكون إخبارا من الله لنبيه لا حالا شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين ؛ إنما يكلف أمر نفسه فقط . وقرئ : ( لا نكلف ) بالنون وكسر اللام ، ويحتمل وجهي الإعراب : الحال والاستئناف . وقرأ عبد الله بن عمر : لا تكلف بالتاء وفتح اللام والجزم على جواب الأمر . وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال وتحريك هممهم إلى الشهادة .
( عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ) قال عكرمة وغيره : عسى من الله واجبة ، ومن البشر متوقعة مرجوة . والذين كفروا : هم كفار قريش ، وقد كف الله تعالى بأسهم وبدا لأبي سفيان ترك القتال . وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم . وقيل كف البأس يكون عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام . وقيل ذلك يوم الحديبية . وقيل هي فيمن ضربت عليهم الجزية . والجمهور على ما قدمناه من أن ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى . والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا ، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل .
( والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) هذا تقوية لقلوب المؤمنين ، وأن بأس الله أشد من بأس الكفار . وقد رجى كف بأسهم ، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال ، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة . فذكر قوته ، وقدرته عليهم ، وما يئول إليه أمرهم من التعذيب . قال الحسن وقتادة : وأشد تنكيلا ; أي عقوبة فاضحة ، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها . وقيل هو من باب : العسل أحلى من الخل ; لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء .