بسم الله الرحمن الرحيم
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله ; وقال الزمخشري ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم . انتهى . وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسما كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله إتباعا لحركة عينه وهي لغة بني تميم ، تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل . الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على [ ص: 410 ] المصيد . وقال : الصيد ما كان ممتنعا ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي . القلادة في الهدي : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزادة ، أو لحاء شجر أو غيره ، وكان الحرمي ربما قلد ركابه بلحاء شجر الحرم ، فيعتصم بذلك من السوء . داود بن علي الأصبهاني
الآم : القاصد أممت الشيء قصدته . جرمه على كذا حمله ، قاله الكسائي وثعلب . وقال أبو عبيدة : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله ; أي : كاسبهم ، والجارم الكاسب . وأجرم فلان : اكتسب الإثم . وقال والفراء أيضا : جرم وأجرم ; أي : كسب غيره ، وجرم يجرم جرما إذا قطع . قال الكسائي الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ; لأن الحق يقطع عليه . قال الخليل : لا جرم أن لهم النار ; أي : لقد حق . الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شنئ . يقال : شنئ يشنأ شنئا وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا . فهذه ستة عشر مصدرا وهي أكثر ما حفظ للفعل . وقال : كل بناء كان من المصادر على فعلان ، بفتح العين ، لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن . سيبويه
المعاونة : المساعدة . المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك . الوقذ : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت . وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة . ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه . التردي : السقوط في بئر أو التهور من جبل . ويقال : ردى وتردى ; أي : هلك ، ويقال : ما أدري أين ردى أي : ذهب . النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء . السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها . وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع ; قال الشاعر :
وسباع الطير تغدو بطانا تتخطاهم فما تستقل
ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة . التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن ; قال الشاعر :
على أعراقه تجري المذاكي وليس على تقلبه وجهده
النصب : قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضا ، وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعا قطعا ليأكل منها الناس . وقيل : النصب مفرد . قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تقربنه
. الأزلام : القداح واحدها زلم وزلم ، بضم الزاي وفتحها ، وهي السهام ; كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب . اليأس : قطع الرجاء . يقال : يئس ييأس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عما ظاهره أنه موجب له . ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا " آس " كما قالوا هاب .المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون ; أي : تضمر ، والخمص ضمور البطن والخلقة ، منه حسنة في النساء ، ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم . ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث . قال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
[ ص: 411 ] وقال آخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
( ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح . وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني . وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة . ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاما كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل . قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أولا فأولا إن شاء الله تعالى . وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد . انتهى .
والظاهر أن النداء لأمة الرسول المؤمنين . وقال : هم أهل الكتاب . وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ; قاله الجمهور ، ابن جريج ، وابن عباس ومجاهد ، ، وابن جبير وقتادة ، والضحاك ، والسدي . وقال : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الأجرام ، ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزجاج فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه . قال الزمخشري الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميا أم جاهليا ، وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن حلف الجاهلية فقال : " لعلك تسأل عن حلف تيم الله " قال : نعم يا نبي الله . قال : " لا يزيده الإسلام إلا شدة " . وقال ، صلى الله عليه وسلم ، في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : " ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " وكان هذا الحلف أن قريشا تعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوما بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسمت ذلك الحلف حلف الفضول . وكان أميرا على الوليد بن عقبة المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول . فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعا . وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه .
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمان ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحج ، وصوم ، واعتكاف ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد : هي ، وهذا القول بدأ به العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وإنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل . وقال الزمخشري قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام " . وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على [ ص: 412 ] نفسه من بيع أو نكاح أو غيره . وقال ابن زيد أيضا ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف . وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول . وقال ابن جريج : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ابن شهاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : " هذا بيان من الله ورسوله ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب " وقيل : العقود هنا الفرائض .