طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ، ويكون أو أهل معطوفا على ( يكون ) ، والضمير في ( به ) يعود على ما عاد عليه في ( يكون ) ، وهذا إعراب متكلف جدا ، وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة ، وغير جائز في قراءة من قرأ : ( إلا أن يكون ميتة ) بالرفع ، فيبقى الضمير في ( به ) ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف محذوفا حتى يعود الضمير عليه ، فيكون التقدير : أو شيء ( أهل لغير الله به ) ; لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) تقدم تفسير مثل هذا ، ولما كان صدر الآية مفتتحا بخطابه تعالى بقوله : ( قل لا أجد ) اختتم الآية بالخطاب فقال : " فإن ربك " ، ودل على اعتنائه به تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما .
( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) مناسبة هذه لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي ، أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء ، كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل ، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله - تعالى - في الأمم جميعها ، وفي قوله ( حرمنا ) تكذيب اليهود في قولهم : إن الله لم يحرم علينا شيئا ، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه . قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والسدي : هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والإوز ونحوهما ، واختاره . وقال الزجاج ابن زيد : هي الإبل خاصة ، وضعف هذا التخصيص . وقال الضحاك : هي النعامة وحمار الوحش ، وهو ضعيف لتخصيصه . وقال الكلبي : كل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وذي ناب من السباع . وقال القتبي : الظفر هنا بمنزلة الحافر ، يدخل فيه كل ذي حافر من الدواب ، سمي الحافر ظفرا استعارة . وقال ثعلب : كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر ، وما يصيد فهو ذو مخلب . قال النقاش : هذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر . وقال : ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم ، فلما ظلموا حرم ذلك عليهم ، فعم التحريم كل ذي ظفر ، بدليل قوله : ( الزمخشري فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) . وقال أبو عبد الله الرازي : حمل الظفر على الحافر ضعيف لأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا ، ولأنه لو كان كذلك لقيل : حرم عليهم كل حيوان له حافر ، وذلك باطل لدلالة الآية على إباحة البقر والغنم مع أنها لها حافر ، فوجب حمل الظفر على المخالب والبراثن ; لأن المخالب آلات لجوارح الصيد في الاصطياد ، فيدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير والطيور التي تصطاد ، ويكون هذا مختصا باليهود لدلالة ( وعلى الذين هادوا ) على الحصر ، فيختص التحريم باليهود ، ولا تكون محرمة على المسلمين ، وما روي من تحريم ضعيف ; لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله فلا يقبل ، ويقوي مذهب ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير مالك ، انتهى ملخصا وفيه منوع ، أحدها : لا [ ص: 244 ] نسلم تخصيص ذي الظفر بما قاله . الثاني : لا نسلم الحصر الذي ادعاه . الثالث : لا نسلم الاختصاص . الرابع : لا نسلم أن خبر الواحد في تحريم ذي الناب وذي المخلب على خلاف كتاب الله ، وكل من فسر الظفر بما فسره من ذوي الأقوال السابقة بذاهب إلى تحريم لحم ما فسره وشحمه وكل شيء منه . وذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك على حذف مضاف ، وليس المحرم ذا الظفر ، وإنما المراد ما صاده ذو الظفر ، أي : ذو المخلب الذي لم يعلم ، وهذا خلاف الظاهر . وقرأ أبي والحسن : ( ظفر ) بسكون الفاء ، والأعرج والحسن أيضا وأبو السمال قعنب بسكونها وكسر الظاء .
( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) أي : شحوم الجنسين ، ويتعلق " من " بحرمنا المتأخرة ، ولا يجب تقدمها على العامل ، فلو كان التركيب : وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومهما ، لكان تركيبا غريبا ، كما تقول : من زيد أخذت ماله ، ويجوز أخذت من زيد ماله ، والإضافة تدل على تأكيد التخصيص والربط ، إذ لو أتى في الكلام : من البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم ، لكان كافيا في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم ، ويحتمل أن يكون ( ومن البقر والغنم ) معطوفا على ( كل ذي ظفر ) ، فيتعلق من بحرمنا الأولى ، ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في " من " التبعيضية من المحرم فقال : ( حرمنا عليهم شحومهما ) . وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون ( من البقر ) متعلقا بحرمنا الثانية ، بل ذلك معطوف على كل ، ( وحرمنا عليهم ) تبيين للمحرم من البقر والغنم ، وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق ، إذ رتبة المجرور بمن التأخير ، لكن عن ماذا ؟ أما عن الفعل فمسلم ، وأما عن المفعول فغير مسلم ، وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع ، بل يجوز ذلك كما جاز : ضرب غلام المرأة أبوها ، وغلام المرأة ضرب أبوها ، وإن كانت رتبة المفعول التأخير ، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه ، فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة ؟ أعني في كونهما فضلة ، فلا يبالى فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر . وقال الشاعر :
وقد ركدت وسط السماء نجومها
فقدم الظرف وجوبا لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف . واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود ، فعن مالك : منع أكل الشحم من ذبائحهم ، وروي عنه الكراهة ، وأباح ذلك بعض الناس من ذبائحهم ، ومن ذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم . وقال ابن حبيب : ما كان معلوما تحريمه عليهم من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم . انتهى . فظاهر قوله : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) أن الشحم الذي هو من ذبائحهم لا يحل لنا أنه ليس من طعامهم ، فلا يدخل تحت عموم ( وطعام الذين ) ، وحمل قوله : ( وطعام الذين ) على الذبائح فيه بعد ، وهو خلاف الظاهر .
( إلا ما حملت ظهورهما ) أي : إلا الشحم الذي حملته ظهورهما البقر والغنم . قال : هو مما علق بالظهر من الشحم ، وبالجنب من داخل بطونهما . وقيل : سمين الظهر وهي الشرائح التي على الظهر من الشحم ، فإن ذلك لم يحرم عليهم . وقال ابن عباس السدي وأبو صالح : الإليات مما حملت ظهورهما .
( أو الحوايا ) هو معطوف على ( ظهورهما ) ، قاله ، وهو الظاهر ، أي : والشحم الذي حملته ( الحوايا ) . قال الكسائي ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد : هي المباعر . وقال علي بن عيسى : هو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار . وقال ابن زيد أيضا : هي بنات اللبن . وقيل : الأمعاء والمصارين التي عليها الشحم .
( أو ما اختلط بعظم ) هو معطوف على ( ما حملت ظهورهما ) ، بعظم هو [ ص: 245 ] شحم الإلية لأنه على العصعص ، قاله السدي ، أو شحم الجنب ، أو كل شحم في القوائم والجنب والرأس والعينين والأذنين ، قاله وابن جريج أيضا ، أو مخ العظم ، والظاهر أن هذه الثلاثة مستثناة من الشحم فهي حلال لهم . قيل : بالمحرم أذب شحم الثرب والكلى . وقيل : " أو الحوايا أو ما اختلط بعظم " معطوف على قوله ( ابن جريج شحومهما ) فتكون داخلة في المحرم أي : حرمنا عليهم شحومهما ( أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) إلا ما حملت ظهورهما ، وتكون أو كهي في قوله ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ، يراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد ، كما تقول : هؤلاء أهل أن يعصوا فاعص هذا أو هذا ، فالمعنى حرم عليهم هذا وهذا . قال : وأو بمنزلتها في قولهم : جالس الزمخشري الحسن أو . انتهى . وقال النحويون : أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معا وأن يجالس أحدهما ، والأحسن في الآية إذا قلنا : إن ذلك معطوف على " شحومهما " أن تكون أو فيه للتفصيل ، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم . وقال ابن سيرين ابن عطية : وقال بعض الناس ( أو الحوايا ) معطوف على الشحوم . قال : وعلى هذا يدخل الحوايا في التحريم ، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه . انتهى . ولم يبين دفع اللفظ والمعنى لهذا القول .
( ذلك جزيناهم ببغيهم ) قال ابن عطية : ( ذلك ) في موضع رفع ، وقال الحوفي : ( ذلك ) في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره : الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون نصب بـ ( جزيناهم ) ; لأنه يتعدى إلى مفعولين ، والتقدير : جزيناهم ذلك . وقال أبو البقاء : ( ذلك ) في موضع نصب بـ ( جزيناهم ) ولم يبين على أي شيء انتصب ، هل على المصدر أو على المفعول بإذ ؟ وقيل : مبتدأ والتقدير : جزيناهموه . انتهى . وهذا ضعيف لضعف : زيد ضربت . وقال : ذلك الجزاء ( الزمخشري جزيناهم ) ، وهو تحريم الطيبات . انتهى . وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر ، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا وأتبع بالمصدر ، فتقول : قمت هذا القيام وقعدت ذلك العقود ، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك ، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر ، والبغي هنا الظلم . وقال الحسن : الكفر . وقال أبو عبد الله الرازي : هو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا ) ، وهذا يقتضي أن هذا التحريم كان عقوبة لهم على ذنوبهم واستعصائهم على الأنبياء . قال القاضي : نفس التحريم لا يكون عقوبة على جرم صدر منهم ; لأن التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان . والجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن لمن يرى استحقاق الثواب ، ويمكن أن يكون للجرم المتقدم ، وكل واحد منهما غير مستبعد .
( وإنا لصادقون ) في الإخبار عما ( حرمنا عليهم ) . وقال ابن عطية : إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم : ما حرم الله علينا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم . وقال التبريزي : " وإنا لصادقون " في إتمام جزائهم في الآخرة الذي سبق الوعيد ، فيكون التحريم من الجزاء المعجل لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، وقال : ( الزمخشري وإنا لصادقون ) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه ، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة ، فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .