( قالوا الآن جئت بالحق ) : قرأ الجمهور : بإسكان اللام والهمزة بعده ، وقرأ نافع : بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وعنه روايتان : إحداهما : حذف واو قالوا ، إذ لم يعتد بنقل الحركة ، إذ هو نقل عارض ، والرواية الأخرى : إقرار الواو اعتدادا بالنقل ، واعتبارا لعارض التحريك ؛ لأن الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها . فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالها من الثبوت . وانتصاب " الآن " على الظرفية ، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر ، وهو قوله لهم : ( إنها بقرة لا ذلول ) إلى ( لا شية فيها ) ، والعامل فيه " جئت " ، ولا يراد بجئت أنه كان غائبا فجاء ، وإنما مجازه نطقت بالحق ، فبالحق متعلق بجئت على هذا المعنى ، أو تكون الباء للتعدية ، فكأنه قال : أجأت الحق ، أي إن الحق كان لم يجئنا فأجأته . وهنا وصف محذوف تقديره بالحق المبين ، أي الواضح الذي لم يبق معه إشكال ، واحتيج إلى تقدير هذا الوصف لأنه في كل محاورة حاورها معهم جاء بالحق ، فلو لم يقدر هذا الوصف لما كان لتقييدهم مجيئه بالحق بهذا الطرف الخاص فائدة .
وقد ذهب قتادة إلى أنه لا وصف محذوف هنا ، وقال : كفروا بهذا القول لأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - كان لا يأتيهم إلا بالحق في كل وقت ، وقالوا : ومعنى بالحق : بحقيقة نعت البقرة ، وما بقي فيها إشكال .
( فذبحوها ) : قبل هذه الجملة محذوف ، التقدير : فطلبوها وحصلوها ، أي هذه البقرة [ ص: 258 ] الجامعة للأوصاف السابقة ، وتحصيلها كان بأن الله أنزلها من السماء ، أو بأنها كانت وحشية فأخذوها ، أو باشترائها من الشاب البار بأبويه . وهذا الذي تظافرت عليه أقاويل أكثر المفسرين ، وذكروا في ذلك اختلافا وقصصا كثيرا مضطربا أضربنا عن نقله صفحا كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه ، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى ، أو عن رسوله في قرآن أو سنة .
( وما كادوا يفعلون ) : كنى عن الذبح بالفعل ؛ لأن الفعل يكنى به عن كل فعل . وكاد في الثبوت تدل على المقاربة . فإذا قلت : كاد زيد يقوم ، فمعناه مقاربة القيام ولم يتلبس به ، فإذا قلت : ما كاد زيد يقوم فمعناه نفي المقاربة ، فهي كغيرها من الأفعال وجوبا ونفيا . وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت ، دلت على نفي الخبر ، وإذا نفيت ، دلت على إثبات الخبر ، مستدلا بهذه الآية ؛ لأن قوله تعالى : ( فذبحوها ) يدل على ذلك ، والصحيح القول الأول . وأما الآية ، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح ، إذ المعنى : وما قاربوا ذبحها قبل ذلك ، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته . فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك . قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إما غلاء ثمنها ، وإما خوف فضيحة القاتل ، وإما قلة انقياد وتعنت على الأنبياء على ما عهد منهم . واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة : أهي التي أمروا أولا بذبحها ، وأنها معينة في الأمر الأول ، وأنه لو وقع الذبح عليها أولا لما وقع إلا على هذه المعينة ؟ أم المأمور بها أولا هي بقرة غير مخصوصة ، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات ، فذبحوا المخصوصة ؟ فكان الأمر الأول مخصوصا لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة ، ويجوز النسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة ، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأول ، لكانوا ممتثلين ، فكذلك بعد التخصيص . ثم اختلف القائلون بهذا الثاني : هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهي كونها لا ذلول إلى آخره ؟ أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل ، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارض ولا بكر ، وصفراء فاقع لونها ؟ والذي نختاره هذا الثاني ؛ لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف ؛ لأن قوله : ( ما هي ) ، و ( ما لونها ) ، و ( ما هي ) ، يدل على ذلك ، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعا ، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة ، كان ذلك تكليفا بعد تكليف ، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق ، وعلى جواز النسخ قبل الفعل .
( وإذ قتلتم نفسا ) : معطوف على قوله تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه ) . ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما ، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة ، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر ، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل ، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله : " اضربوه ببعضها " ، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل . ثم سألوا عن تعيين قاتله ، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك ، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ، فيكون الأمر بالذبح متقدما في النزول والتلاوة ، متأخرا في الوجود ، ويكون قتل القتيل متأخرا في النزول والتلاوة ، متقدما في الوجود ، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخرا في النزول ، متقدما في التلاوة ، والإخبار عن قتلهم مقدما في النزول ، متأخرا في التلاوة ، دون تعرض لزمان وجود القصتين . وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر ، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح ، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة ، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى ، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر ، إنما يكون لمرجح ، ولا مرجح ، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولا ذبح بقرة . هل يمتثلون ذلك أم لا ؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادئ الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة ، لأنها طواعية صرف ، وعبودية [ ص: 259 ] محضة ، واستسلام خالص ، بخلاف ما تظهر له حكمة ، فإن في العقل داعية إلى امتثاله ، وحضا على العمل به .
وقال صاحب المنتخب : إن وقوع ذلك القتيل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل ، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة . فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود . فأما التقديم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : ( وإذ قتلتم نفسا ) من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه ، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة . وتقدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ؛ لأنه لو عكس لما كانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . انتهى كلامه ، وهو مبني على أن القتل وقع أولا ، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة ، وليس له دليل على ذلك إلا نقل شيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنة . وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدما وأن القتل تأخر ، كحالهما في التلاوة .
وقال بعض الناس : التقديم والتأخير حسن ؛ لأن ذلك موجود في القرآن ، في الجمل ، وفي الكلمات ، وفي كلام العرب . وأورد من ذلك جملا ، من ذلك : قصة نوح - عليه السلام - في إهلاك قومه ، وقوله : ( وقال اركبوا فيها ) ، وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر ، وبمتاع إلى الحول ، إذ الناسخ مقدم ، والمنسوخ متأخر . وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيرا ، والتقديم والتأخير ، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر ، فينبغي أن ينزه القرآن عنه . ونسبة القتيل إلى جمع ، إما لأن القاتلين جمع ، وهم ورثة المقتول ، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله ، أو لأن القاتل واحد ، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم ، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة ، إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح .
( فادارأتم فيها ) قرأ الجمهور : بالإدغام ، وقرأ أبو حيوة : فتدارأتم ، على وزن تفاعلتم ، وهو الأصل ، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير . وقال ابن عطية : قرأ أبو حيوة ، وأبو السوار الغنوي : وإذ قتلتم نفسا فادرأتم ، وقرأت فرقة : فتدارأتم على الأصل . انتهى كلامه . ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ : فدرأتم ، بغير ألف قبل الراء . ويحتمل هذا التدارؤ ، وهو التدافع ، أن يكون حقيقة ، وهو أن يدفع بعضهم بعضا بالأيدي ، لشدة الاختصام . ويحتمل المجاز ، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض ، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح ، أو بأن دفع بعضهم بعضا بالتهمة والبراءة . والضمير في : فيها عائد على النفس ، وهو ظاهر ، وقيل : على القتلة ، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وقيل : على التهمة ، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام .
( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، ما : منصوب باسم الفاعل ، وهو موصول معهود ، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت ، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار ، ولا تكرار ، إذ لا تجدد فيه ، لأنها قصة واحدة معروفة ، فلذلك ، والله أعلم ، لم يأت بالفعل . وجاء اسم الفاعل معملا ، ولم يضف ، وإن كان من حيث المعنى ماضيا ؛ لأنه حكى ما كان مستقبلا وقت التدارؤ ، وذلك مثل ما حكى الحال في قوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) . ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان ، والعائد على ما محذوف تقديره : ما كنتم تكتمونه . والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله ، وعلى هذا ذهب الجمهور . وقيل : يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره ، فيكون القتيل من جملة أفراده ، وفي ذلك نظر ، إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى .