( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد ، جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي ، وقد تقدم من كلامهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) وغير ذلك مما هو كفر ، وقال ابن عطية : [ ص: 378 ] الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى ( اجعل لنا إلها ) نفرده بالعبادة . انتهى وفي الحديث : . وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ، ولها يوم يجتمعون إليها ، فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلك في الإسلام ، ورأى الرسول - عليه السلام - ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره ، وقال : مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة ، فقيل : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط بنو إسرائيل . الله أكبر قلتم والله كما قال
( اجعل لنا إلها ) خالقا مدبرا ؛ لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أن يجعله خالقا للعالم ومدبرا ، فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصورا ، يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وقد حكي عن عبادة الأوثان قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وأجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر سواء اعتقد كونه إلها للعالم ، أو أن عبادته تقرب إلى الله . انتهى . ويظهر أن ذلك لم يصدر من جميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ، ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لما وقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك و " ما " في " كما " . قال : كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها ، وقال غيره : موصولة حرفية ، أي : كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حد ما قال الزمخشري ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم : لا أكلمك ما إن في السماء نجما ، أي : ما ثبت أن في السماء نجما ، ويكون آلهة فاعلا يثبت المحذوفة ، وقيل : موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور ، والتقدير : كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكن .
( قال إنكم قوم تجهلون ) تعجب موسى - عليه السلام - من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ، ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بإن ؛ لأنه لا جهل أعظم من هذه المقالة ، ولا أشنع وأتى بلفظ ( تجهلون ) ولم يقل جهلتم إشعارا بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل .
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة الأصنام ، ومعنى متبر مهلك مدمر مكسر ، وأصله الكسر ، وقال الكلبي : مبطل ، وقال أبو اليسع : مضلل ، وقال السدي وابن زيد : مدمر رديء سيئ العاقبة وما هم فيه يعم جميع أحوالهم ، وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع به وإن كان مقصودا به التقرب إلى الله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ، قال : وفي إيقاع ( هؤلاء ) اسما لـ ( إن ) وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار ، وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى . ولا يتعين ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن لأن الأحسن في [ ص: 379 ] إعراب مثل هذا أن يكون خبر إن متبرا ، وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وكذلك ( ما كانوا ) هو فاعل بقوله ( وباطل ) فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إن بمفرد لا جملة ، وهو نظير إن زيدا مضروب غلامه ، فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعا على أنه لم يسم فاعله ، ومضروب خبر إن ، والوجه الآخر وهو أن يكون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح . الزمخشري