وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه . وبعضهم يؤتاه بشماله . وبعضهم يؤتاه وراء ظهره . قال : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [ 84 \ 3 - 12 ] وقد قدمنا هذا في سورة " بني إسرائيل " . وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في " الزمر " في قوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 69 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : فترى المجرمين ، تقدم معنى مثله في الكلام على [ ص: 288 ] قوله : وترى الشمس إذا طلعت الآية [ 18 \ 49 ] ، والمجرمون : جمع المجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام . والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال ، ومعنى كونهم " مشفقين مما فيه " : أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة ، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد ، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، وقولهم ياويلتنا الويلة : الهلكة ، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا : يا ويلتنا ! أي : يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك ! وقال أبو حيان في البحر : المراد من بحضرتهم : كأنهم قالوا : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا . وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله : يا أسفا على يوسف [ 12 \ 84 ] ، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله [ 39 \ 56 ] ، ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] ، وقولـه : يا عجبا لهذه الفليقة ، فيا عجبا من رحلها المتحمل ، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان . وحاصل ما ذكره : أن أداة النداء في قوله " يا ويلتنا " ينادى بها محذوف ، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف ، والتقدير كما ذكره : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء ، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب . ومنه قول عنترة في معلقته :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم
يعني : يا قوم انظروا شاة قنص ، وقول : ذي الرمةألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقولـه تعالى : مال هذا الكتاب [ 18 \ 49 ] أي : أي شيء ثبت لهذا الكتاب لا يغادر أي : لا يترك صغيرة ولا كبيرة أي : من المعاصي ، وقول من قال : الصغيرة القبلة ، والكبيرة الزنا ، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول . وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر ، ويفهم من ذلك أن منها صغائر ، وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر ; وذلك في قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 4 \ 31 ] ، ويروى عن في هذه الآية أنه [ ص: 289 ] قال : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر ، وجملة " لا يغادر " حال من " الكتاب " . الفضيل بن عياض
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن ; لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم ، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم . والعلم عند الله تعالى . الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
قوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم . وأوضح هذا أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية [ 10 \ 30 ] ، وقولـه : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقولـه : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحدا ، فلا ينقص من حسنات محسن ، ولا يزيد من سيئات مسيء ، ولا يعاقب على غير ذنب .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقولـه : وما ربك بظلام للعبيد [ 41 \ 46 ] وقولـه : وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 33 ] ، وقولـه : وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 118 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .