وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ، ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم وسعيد بن جبير عيسى حتى أتت به قومها .
[ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ، ووهب بن منبه في الرواية الأخرى عنه وسعيد بن جبير وابن زيد .
فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : في تفسيره ، واستظهره ابن جرير الطبري أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .
ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .
والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله ، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه ، كما قال تعالى عنها : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته ، وبهذه القرينة الأخيرة استدل في إحدى الروايتين عنه على أنه سعيد بن جبير عيسى ، كما نقله عنه غير واحد ، و " أن " في قوله " ألا تحزني " هي المفسرة ، فهي بمعنى أي ، وضابط " أن " المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا ، فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة : أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما [ ص: 395 ] قبلها ، فالنداء المذكور قبلها هو : لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .
واختلف العلماء في المراد بالسري هنا ، فقال بعض العلماء : هو الجدول وهو النهر الصغير ; لأن الله أجرى لها تحتها نهرا ، وعليه فقوله تعالى : فكلي أي : من الرطب المذكور في قوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، واشربي [ 19 \ 26 ] ، أي : من النهر المذكور في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا ، وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد في معلقته :
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها
وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر :سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم
سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السري تمده الأنهار
سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرا أسراهما
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر [ ص: 396 ] الصغير ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : القرينة من القرآن ، فقوله تعالى : فكلي واشربي ، قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا [ 19 \ 24 ] ، وقوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وكذلك قوله تعالى : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23 \ 25 ] ; لأن المعين الماء الجاري ، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية ، والله تعالى أعلم .
الأمر الثاني : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد جاء بذلك حديث مرفوع ، قال : حدثنا الطبراني ، حدثنا أبو شعيب الحراني يحيى بن عبد الله البابلي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ابن عمر لمريم : قد جعل ربك تحتك سريا ، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، إن السري الذي قال الله وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي ، قال فيه : ضعيف ، وقال أبو حاتم الرازي أبو زرعة : منكر الحديث ، وقال : متروك الحديث . انتهى كلام أبو الفتح الأزدي ابن كثير ، وقال ابن حجر رحمه الله في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " في الحديث المذكور : أخرجه في الصغير ، الطبراني من رواية وابن عدي ، عن أبي سنان سعيد بن سنان أبي إسحاق ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : قد جعل ربك تحتك سريا ، قال : " ، قال " السري : النهر : لم يرفعه عن الطبراني أبي إسحاق إلا أبو سنان ، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف ، وأخرجه عبد الرزاق ، عن ، عن الثوري أبي إسحاق عن البراء موقوفا ، وكذا ذكره تعليقا عن البخاري ، عن وكيع إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ورواه ابن مردويه من طريق آدم ، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفا ، وفي الباب عن رضي الله عنهما قال : " إن السري الذي قاله ابن عمر لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه " ، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ، وراويه عن ابن عمر عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم ، انتهى . وأبو زرعة
فهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر : في تفسيره ، وبه قال ابن جرير ، البراء بن عازب وعلي بن أبي طلحة ، عن ، ابن عباس ، وعمرو بن ميمون ومجاهد ، ، [ ص: 397 ] وسعيد بن جبير والضحاك ، ، وإبراهيم النخعي وقتادة ، والسدي ، وغيرهم ، وممن قال إنه ووهب بن منبه عيسى : الحسن ، ، والربيع بن أنس ، وهو إحدى الروايتين عن ومحمد بن عباد بن جعفر قتادة ، وقول قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ابن كثير وغيره .