[ ص: 61 ]
كان غرضنا الأول من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في المنار هو بيان ما نستفيده من دروس شيخنا الأستاذ الإمام ، مع شيء مما يفتح الله به علينا بالاختصار ، فلذلك اختصرنا فيما كتبناه أولا ، ثم لما طبعنا تفسير الفاتحة على حدته مرة ثانية زدنا فيه بعض زيادات ، وكان بدا لنا أن نجعل هذا التفسير مطولا مستوفى . ولهذا زدنا في تفسير الفاتحة هنا زيادات كثيرة كما نبهنا على ذلك في المقدمة . وبعد الفراغ من طبعه رأينا أن نعززه بالفوائد الآتية : فوائد في تفسير الفاتحة
( حكمة إيثار ذكر الربوبية والرحمة في أول الفاتحة على سائر الصفات )
قد علمت أن اسم الجلالة ( الله ) هو اسم الذات الجامع لمعاني الصفات العليا ، وسائر الأسماء الحسنى ، والأصول من هذه الأسماء والصفات التي ترجع إليها غيرها ، وتعود إليها معانيها ولو بطريق اللزوم أربعة :
اثنان منها ذاتيان وهما ( الحي القيوم ) والاثنان الآخران : فعليان وهما الرب والرحمن الرحيم ، وبتعبير أظهر أو أصح اثنان منهما لا يتعلقان بتدبير الخلق ، واثنان يتعلقان به ، فالحي ذو الحياة وهي بأعم معانيها الصفة الوجودية التي هي الأصل في معقولنا لجميع كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وهي الصفات التي يسميها علماء الكلام صفات المعاني . ويجعلون عليها مدار معرفة الله تعالى مع الصفات السلبية التي يراد بها تنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق من النقص ومشابهة الخلق كالرحمة والحلم والغضب والعدل والعزة والخالقية والرازقية إلخ ، وكمال الحياة يستلزم الاتصاف بهذه الصفات وبغيرها من صفات الكمال . صفات الكمال في الوجود من صفات ذات وصفات أفعال
والحياة في الخلق قسمان : حسية ومعنوية ، فالأولى : الحياة النباتية ، والحياة الحيوانية ، ولكل منها صفات لازمة لها أعلاها في الحياة الثانية حياة الإنسان التي من خواصها العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك مما يفقده بالموت . والثانية الحياة العقلية والعلمية والروحية الدينية . ومن الشواهد القرآنية على هذه الحياة قوله تعالى : ( لينذر من كان حيا ) ( 36 : 70 ) وقوله : ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ( 8 : 28 ) وكمال هذه الحياة للبشر لا يكون إلا في الآخرة وإنما يكون الاستعداد له في الدنيا بتزكية النفس بالعلم والعمل .
أعلى وأكمل من حياة جميع خلقه من الجن والإنس والملائكة [ ص: 62 ] وهي لا تشبهها ( وحياة الخالق تعالى ليس كمثله شيء ) . وإنما نفهم من إطلاقها اللغوي مع التنزيه أنها الصفة الذاتية الواجبة الأزلية الأبدية التي يلزمها اتصافه بما وصف به نفسه من صفات الكمال ، بدونها ، فهي لا يتوقف تعقلها على غيرها من الصفات ، ويتوقف تعقل جميع الصفات عليها ، وعبر عنها بعضهم بأنها تصحح له الاتصاف بصفات المعاني .
وهو القائم ( أي الثابت المتحقق ) بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به اهـ . وسبقه إلى مثله غيره . وقولهم : " القائم بنفسه " بمعنى قول المتكلمين " واجب الوجود " أي الذي وجوده ثابت لذاته غير مستمد من وجود آخر فهو يستلزم القدم الذي لا أول له ، والبقاء الذي لا آخر له ( وأما " القيوم " فأحسن ما قيل في تفسيرها في معجم ( لسان العرب ) هو الأول والآخر ) وقولهم : الذي يقوم به كل موجود ، معناه أنه لا وجود لشيء غيره ابتداء ولا بقاء إلا به ، فكل وجود سواه مستمد منه وباق ببقائه إياه ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) ( 35 : 41 ) ومن كان هذا وصفه كان بالضرورة قادرا مريدا عليما حكيما ، فإذا كانت الحياة تصحح لصاحبها الاتصاف بهذه الصفات وغيرها وتدل عليها بقيد الكمال دلالة التزام ، فالقيومية تدل عليها دلالة بغير قيد .
ولجمع هذين الاسمين الكريمين هذه المعاني وغيرها من معاني الكمال الأعلى كان القول بأنهما مع اسم الجلالة - ما يعبر عنه بالاسم الأعظم - هو القول الراجح المختار عندنا ، وإنما فسرنا الاسمين الكريمين هنا وذكرهما استطرادي لا يدخل في تفسير الفاتحة ؛ لأن أكثر القراء لا يفهم معانيهما التي يدل عليها لفظهما بطرق الدلالة الثلاث : المطابقة والتضمن والالتزام .
وأما فهما الصفتان الدالتان على أن الله تعالى هو المالك المدبر لأمور العالم كلها ، وعلى أن رحمته تعالى تغلب غضبه ، وإحسانه الذي هو أثر رحمته يغلب انتقامه ، ومعنى الانتقام لغة : الجزاء على السيئات ، فإذا كان جزاء على السيئة بمثلها كان انتقام حق وعدل ، وإن كان بأكثر من ذلك كان انتقام باطل وجور ، والله تعالى منزه عن الباطل والجور ( صفتا الربوبية والرحمة ولا يظلم ربك أحدا ) ( 18 : 49 ) بل يتجاوز عن بعض السيئات ، ويضاعف جزاء الحسنات ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) ( 25 : 42 ) ، ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ( 30 : 42 ) ، ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) ( 4 : 40 ) والآيات في الجزاء على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها معروفة ، وكذا آية المضاعفة سبعمائة ضعف وما شاء الله تعالى .
فمن شأن الرب المالك للعباد المدبر لأمورهم المربي لهم أن يجازي كل عامل بعمله ، [ ص: 63 ] وينتقم للمظلوم من ظالمه ، والجزاء بالعدل مخيف لأكثر الناس بل لجميع الناس ، فإنه ما من أحد إلا ويقصر فيما يجب عليه لربه ولنفسه ولأهله ولولده بله من دونهم حقا عليه ومكانة عنده ، ومن حقهم أن يغلب الخوف على الرجاء في قلوبهم ، ولذلك قرن سبحانه صفة الربوبية بصفة الرحمة ، وعبر عنها باسمين لا باسم واحد : اسم الرحمن الدال على منتهى الكمال في اتصافه بها ، واسم الرحيم الدال على أنها من الصفات النفسية المعنوية مع تعلقها بالحق تعلقا تنجيزيا كقوله تعالى : ( إن الله كان بكم رحيما ) ( 4 : 29 ) ، ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ( 33 : 34 ) وبهذا التفسير ضممنا في التفرقة بين الاسمين ما قاله المحقق ابن القيم إلى ما قاله شيخنا رحمهما الله .
وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر ؛ فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شئونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم الرقيب المقيت الباعث الشهيد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت المقدم المؤخر المغني المانع الضار النافع وأمثالها . والرحمن في ذاته الرحيم بعباده لا بد أن يكون توابا غفورا عفوا رءوفا شكورا حليما وهابا .
إذا علمنا هذا تجلت لنا حكمة وصف الله تعالى في أول فاتحة الكتاب العزيز بالربوبية والرحمة الدالتين على جميع صفات الأفعال دون الحياة والقيومية الدالتين على صفات الذات وغيرها ، وهي - والله أعلم بمراده - أن الفاتحة ينظر فيها من وجهين ( أحدهما ) : ما دل عليه اسمها هذا ؛ أعني كونها فاتحة ومبدأ للقرآن ( وثانيهما ) : أنها قد شرعت للقراءة في الصلوات كل يوم ، وكل منهما يناسبه البدء بذكر ربوبية الله ورحمته .
ذلك بأن القرآن كما قال الله في أول سورة البقرة ( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) ( 2 : 2 - 3 ) إلخ . الآيات . فهم الذين يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يتدبرونه ويتعظون به ، وهم ( الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) ( 21 : 49 ) فالمناسب في حقهم أن تكون السورة الأولى وهي المثاني التي يثنونها دائما في صلاتهم وفي بدء أورادهم القرآنية المسماة بالختمات مبدوءة بذكر الصفتين الجامعتين لمعاني الصفات التي تتعلق بتدبير الله سبحانه لشئونهم ، وبعدله في الحكم بينهم فيما يختصمون فيه ، وبمجازاتهم على أعمالهم ، وبرحمته لهم وإحسانه إليهم الدالتين على ما يجب عليهم من شكره وتخصيصه بالعبادة والاستعانة ، والتوجه إليه في طلب كمال الهداية ، وهاتان الصفتان هما الربوبية والرحمة .
فبدء فاتحة القرآن بذكرهما في البسملة ثم أثناء السورة مرشد لما ذكر ، مذكر للمصلي وللتالي به . وكذا بدء كل سورة بالبسملة التي لم يوصف اسم الذات ( الله ) فيها بغير الرحمة الكاملة الشاملة ، هو إعلام منه سبحانه بأنه أنزله رحمة للعالمين ، كما قال مخاطبا لمن أنزله [ ص: 64 ] عليه : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها المنافقين ، وبدئت بنبذ عهود المشركين ، وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزله فيما قبلها من أحكامه .
وهذا الذي شرحناه يفند زعم بعض المتعصبين الغلاة في ذم الإسلام بالهوى الباطل أن رب المسلمين رب غضوب منتقم قهار ، ودينهم دين رعب وخوف ، بخلاف دين النصرانية الذي يسمي الرب أبا للإعلام بأنه يعامل عباده كمعاملة الأب لأولاده ، وقد أشار شيخنا إلى هذا الزعم وفنده في تفسير اسم الرب . وسنذكر في فائدة أخرى المقابلة بين صلاة المسلمين بقراءة الفاتحة وصلاة النصارى بالصيغة المعروفة عندهم بالصلاة الربانية ، وثبت في الحديث الصحيح أن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع ، وأن جميع ما أودعه في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى ، ويجد القارئ تفصيل القول في سعة الرحمة الإلهية في تفسير قوله - عز وجل - : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ( 7 : 156 ) من سورة الأعراف .