( مسائل متممة لتفسير الآيات )
( المسألة الأولى : في قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ) عقائد
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام ، وقال ابن زيد : إنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا ، ويشركون ما ذكر به ، وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في العراق . وقد أثبت بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون [ ص: 471 ] حقيقة التوحيد . ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة ، وأن اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم . ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين ، فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم ، وكانوا يكتمونه عن العامة ; لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا ، واليونان اقتبسوا من قدماء المصريين . على أن هنري رولنسن من مدققي مؤرخي أوربة قال : إن أمة من ضفاف الدجلة والفرات ارتحلت إلى أوربة بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر .
من آلهة الكلدانيين ( إل ) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية ، قال صاحب القاموس : والإل الربوبية ، واسم الله تعالى ، وكل اسم آخره " إل " و " إيل " فمضاف إلى الله تعالى ، وقال : أل المريض والحزين يئل ألا وأللا : أن وحن ، ورفع صوته بالدعاء . وقال في مادة ( أ ي ل ) إيل - بالكسر - اسم الله تعالى ، وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى ، ولكنه نقله عن ، ثم قال : والإل الربوبية ، والأل - بالضم - الأول في بعض اللغات ، وليس من لفظ الأول ، ثم قال في ( إيل ) من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني . ثم نقل عن ابن سيده أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية " لأن إيلا لغة في " إل " وهو الله عز وجل ، كقولهم : عبد الله وتيم الله " أقول : ونقل مثله في ( إل ) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف ، أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء الرب ، ونقل عن ابن الكلبي أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل : إل . ثم قال في مادة ( ا ل هـ ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلهة ، والإلهة الشمس الحارة - حكي عن ثعلب . والأليهة والألاهة ( بالفتح والكسر ) وألاهة ( مضمومة الهمزة غير معرفة ) كله الشمس . . إلخ . ثم ذكر أن : الألاهة الألوهة والألوهية : العبادة ، وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم : إله بين الإلهة والإلهية والألهانية ، وأن أصله من أله يأله ( من باب علم ) إذا تحير .
هذا وإن دلالة مادة " أ ل هـ " على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن الكلدانيين وغيرهم . قال البستاني في دائرة المعارف عند تعريف اسم ( الله ) بأنه اسم للذات الواجب الوجود ، المستحق لجميع المحامد - أي كما قال علماء المسلمين - وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا ، وقد يطلق على غير الله ، و " يهوه " أي الكائن ، وهو خاص به تعالى ، وإيل أي القدير ، وبالسريانية ألوهو وبالكلدانية إلاها . انتهى .
وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات ( الآثار القديمة ) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم ( إيل - أو - إل ) فهو رب الأرباب ، وأصل الآلهة ، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم ، والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين نوح - عليه السلام - أنه منزه عن [ ص: 472 ] صفات الخلق وتخيلاتهم ، وروى ديودورس عن فيلو أنه مرادف لزحل ، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشترى كما قيل ذلك ، وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم ، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين ( أنا ) و ( بيل ) . و ( أنا ) هذا هو رأس ( الثالوث ) الكلداني ، وقيل : إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة ( الله ) ويقولون : " أنو " - إذا كان فاعلا - و " أنا " إذا كان مفعولا ، وإني إذا كان مضافا إليه . ومن ألقابه عندهم : القديم ، والرأس الأصلي ، وأبو الآلهة ، ورب الأرواح والشياطين ، وملك العالم الأسفل ، وسلطان الظلام أو رأس الموت . ووجدت آثار عبادته في مدينة ( أرك ) وهي الوركاء ، قال ياقوت : الوركاء موضع بناحية الروابي ، ولد به إبراهيم الخليل عليه السلام ، وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه ( قول ) في أشور سنة 1830 قبل المسيح ، فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك ( تلان ) وأصله ( تل أنا ) جاء ذكره في آجر للملك ( أوركه ) اكتشفت في أنقاض ( أم قبر ) هذه ترجمته " إن إله القمر ابن شقيق ( أنو ) وبكر ( بعلوس ) قد حمل عبده ( أوركه ) الرئيس التقي ملك ( أور ) على بناء هيكل ( تسين كاثو ) معبدا مقدسا له " .
والثاني من ثالوثهم ( بلوس - أو - بيل و ) لعلهما محرفان عن ( بعل ) و ( بعلوس ) ومن أسمائهم ( أنو ) و ( إيل انيو ) ومعناه السيد . وتلحق غالبا بلفظ ( نيبرو ) ومؤنثها ( نيبروث ) وهي قريبة من كلمة ( نمرود ) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية ( نيبروث ) وكلمة ( نيبرو ) مشتقة من كلمة " بابار " السريانية ، ومعناها طارد . وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع ، فنبر : رفع ، والنبرة : الشيء المرتفع ، ففيها معنى الشرف ، ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية ( فبيل نبرو ) بمعنى السيد الصياد ، أو رب الصيد - ولذلك قيل : إنه نمرود المذكور في العهد العتيق ، ويقولون : إنه كان يصيد الوحوش . وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه يأتي مدينة ( بابل ) وملكها الأول ، ودلت الآثار على أن الأشوريين كانوا يسمونها مدينة ( بل نبرو ) وظل الكلدانيون يعبدون ( نمرود ) مدة وجود دولتهم ، وكانوا يكنونه بأبي الآلهة ، ويكنون زوجه المسماة ( موليتا - أو - أنوتا ) بأم الآلهة العظام ، ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج ( نين ) وهو ابنها ، وفي بعضها أنها زوج ( أشور ) ولها ألقاب عظيمة ، ووجد لها عدة هياكل .
والثالث من ثالوثهم ( حوا - أو - حيا ) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك ، زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب ، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء ، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب ( أور ) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية ، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الإسفيني ، ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة ، والإشارة إلى الحياة ، وله ألقاب عظيمة .
[ ص: 473 ] وكان للكلدان ( ثالوث ) آخر أحد آلهته ( سيني ) وهو القمر ، وهذا الاسم سامي ، فاسم القمر بالسريانية سين ، وكذا في السنسكريتية ، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض ( وبعل رونا ) أي رب البناء ، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا ، وله هياكل كثيرة ، وأعظم معابده في ( أور ) .
والثاني ( سان ) أو ( سانسي ) وهو الشمس ، والاسم سامي أيضا ، ومنه السنا بالعربية ، وهو - بالقصر - الضياء ، وقيل : ضوء النار والبرق ، والصواب أنه أعم . قال تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) ( 10 : 5 ) ومنه ( شاني ) بالعبرية ، ومعناها لامع ، واسم الشمس باللغة السنسكريتية ( سيونا ) ومن ألقاب هذا الإله : رب النار ، ونير الأرض والسماء ، وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها ( بيت بارا ) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة ، وكان اسم ( هليبوليس ) عندهم ( سيبارا ) وتسمى في الآثار ( تسيبار شاشاماس ) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس ، وللشمس زوجة عندهم يسمونها ( أي ) و ( كولا ) ( أنونيت ) .
وثالث الثلاثة ( فول ) أو ( ايفا ) أي الهواء ، وهو رب الجو القائم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير ، المتصرف في الزراعة والمواسم . ومن هياكله هيكل بناه الملك ( شماس فول ) الذي ملك الكلدان سنة 1850 قبل المسيح .
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن ، وكونه حجة لله تعالى عن الأنام ; لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين ، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين ، فيعلم منها خبر معبوداتهم ، ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه ( عزرا الكاهن ) كتبه بعد السبي ، فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد البابليين .