( مسائل متممة لتفسير الآيات )
( المسألة الأولى : في
nindex.php?page=treesubj&link=29433_31873عقائد قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم )
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام ، وقال
ابن زيد : إنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا ، ويشركون ما ذكر به ، وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في
العراق . وقد أثبت
بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون
[ ص: 471 ] حقيقة التوحيد . ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة ، وأن
اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم . ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين ، فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم ، وكانوا يكتمونه عن العامة ; لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا ، واليونان اقتبسوا من قدماء المصريين . على أن
هنري رولنسن من مدققي مؤرخي
أوربة قال : إن أمة من ضفاف
الدجلة والفرات ارتحلت إلى
أوربة بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر .
من آلهة
الكلدانيين ( إل ) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية ، قال صاحب القاموس : والإل الربوبية ، واسم الله تعالى ، وكل اسم آخره " إل " و " إيل " فمضاف إلى الله تعالى ، وقال : أل المريض والحزين يئل ألا وأللا : أن وحن ، ورفع صوته بالدعاء . وقال في مادة ( أ ي ل ) إيل - بالكسر - اسم الله تعالى ، وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى ، ولكنه نقله عن
nindex.php?page=showalam&ids=13247ابن سيده ، ثم قال : والإل الربوبية ، والأل - بالضم - الأول في بعض اللغات ، وليس من لفظ الأول ، ثم قال في ( إيل ) من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني . ثم نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية " لأن إيلا لغة في " إل " وهو الله عز وجل ، كقولهم : عبد الله وتيم الله " أقول : ونقل مثله في ( إل ) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف ، أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء الرب ، ونقل عن
أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل : إل . ثم قال في مادة ( ا ل هـ ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلهة ، والإلهة الشمس الحارة - حكي عن
ثعلب . والأليهة والألاهة ( بالفتح والكسر ) وألاهة ( مضمومة الهمزة غير معرفة ) كله الشمس . . إلخ . ثم ذكر أن : الألاهة الألوهة والألوهية : العبادة ، وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم : إله بين الإلهة والإلهية والألهانية ، وأن أصله من أله يأله ( من باب علم ) إذا تحير .
هذا وإن دلالة مادة " أ ل هـ " على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن
الكلدانيين وغيرهم . قال
البستاني في دائرة المعارف عند تعريف اسم ( الله ) بأنه اسم للذات الواجب الوجود ، المستحق لجميع المحامد - أي كما قال علماء المسلمين - وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا ، وقد يطلق على غير الله ، و " يهوه " أي الكائن ، وهو خاص به تعالى ، وإيل أي القدير ، وبالسريانية ألوهو وبالكلدانية إلاها . انتهى .
وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات ( الآثار القديمة ) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم ( إيل - أو - إل ) فهو رب الأرباب ، وأصل الآلهة ، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم ، والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين
نوح - عليه السلام - أنه منزه عن
[ ص: 472 ] صفات الخلق وتخيلاتهم ، وروى
ديودورس عن
فيلو أنه مرادف لزحل ، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشترى كما قيل ذلك ، وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم ، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين ( أنا ) و ( بيل ) . و ( أنا ) هذا هو رأس ( الثالوث ) الكلداني ، وقيل : إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة ( الله ) ويقولون : " أنو " - إذا كان فاعلا - و " أنا " إذا كان مفعولا ، وإني إذا كان مضافا إليه . ومن ألقابه عندهم : القديم ، والرأس الأصلي ، وأبو الآلهة ، ورب الأرواح والشياطين ، وملك العالم الأسفل ، وسلطان الظلام أو رأس الموت . ووجدت آثار عبادته في مدينة (
أرك ) وهي
الوركاء ، قال
ياقوت :
الوركاء موضع
بناحية الروابي ، ولد به
إبراهيم الخليل عليه السلام ، وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه ( قول ) في
أشور سنة 1830 قبل
المسيح ، فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك (
تلان ) وأصله ( تل أنا ) جاء ذكره في آجر للملك (
أوركه ) اكتشفت في أنقاض ( أم قبر ) هذه ترجمته " إن إله القمر ابن شقيق ( أنو ) وبكر ( بعلوس ) قد حمل عبده (
أوركه ) الرئيس التقي ملك (
أور ) على بناء هيكل (
تسين كاثو ) معبدا مقدسا له " .
والثاني من ثالوثهم ( بلوس - أو - بيل و ) لعلهما محرفان عن ( بعل ) و ( بعلوس ) ومن أسمائهم ( أنو ) و ( إيل انيو ) ومعناه السيد . وتلحق غالبا بلفظ ( نيبرو ) ومؤنثها ( نيبروث ) وهي قريبة من كلمة ( نمرود ) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية ( نيبروث ) وكلمة ( نيبرو ) مشتقة من كلمة " بابار " السريانية ، ومعناها طارد . وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع ، فنبر : رفع ، والنبرة : الشيء المرتفع ، ففيها معنى الشرف ، ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية ( فبيل نبرو ) بمعنى السيد الصياد ، أو رب الصيد - ولذلك قيل : إنه نمرود المذكور في العهد العتيق ، ويقولون : إنه كان يصيد الوحوش . وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه يأتي مدينة ( بابل ) وملكها الأول ، ودلت الآثار على أن الأشوريين كانوا يسمونها مدينة ( بل نبرو ) وظل
الكلدانيون يعبدون (
نمرود ) مدة وجود دولتهم ، وكانوا يكنونه بأبي الآلهة ، ويكنون زوجه المسماة (
موليتا - أو -
أنوتا ) بأم الآلهة العظام ، ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج (
نين ) وهو ابنها ، وفي بعضها أنها زوج (
أشور ) ولها ألقاب عظيمة ، ووجد لها عدة هياكل .
والثالث من ثالوثهم ( حوا - أو - حيا ) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك ، زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب ، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء ، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب ( أور ) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية ، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الإسفيني ، ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة ، والإشارة إلى الحياة ، وله ألقاب عظيمة .
[ ص: 473 ] وكان للكلدان ( ثالوث ) آخر أحد آلهته ( سيني ) وهو القمر ، وهذا الاسم سامي ، فاسم القمر بالسريانية سين ، وكذا في السنسكريتية ، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض ( وبعل رونا ) أي رب البناء ، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا ، وله هياكل كثيرة ، وأعظم معابده في (
أور ) .
والثاني ( سان ) أو ( سانسي ) وهو الشمس ، والاسم سامي أيضا ، ومنه السنا بالعربية ، وهو - بالقصر - الضياء ، وقيل : ضوء النار والبرق ، والصواب أنه أعم . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) ( 10 : 5 ) ومنه ( شاني ) بالعبرية ، ومعناها لامع ، واسم الشمس باللغة السنسكريتية ( سيونا ) ومن ألقاب هذا الإله : رب النار ، ونير الأرض والسماء ، وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها ( بيت بارا ) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة ، وكان اسم ( هليبوليس ) عندهم ( سيبارا ) وتسمى في الآثار ( تسيبار شاشاماس ) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس ، وللشمس زوجة عندهم يسمونها ( أي ) و ( كولا ) ( أنونيت ) .
وثالث الثلاثة ( فول ) أو ( ايفا ) أي الهواء ، وهو رب الجو القائم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير ، المتصرف في الزراعة والمواسم . ومن هياكله هيكل بناه الملك ( شماس فول ) الذي ملك الكلدان سنة 1850 قبل المسيح .
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن ، وكونه حجة لله تعالى عن الأنام ; لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين ، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين ، فيعلم منها خبر معبوداتهم ، ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه ( عزرا الكاهن ) كتبه بعد السبي ، فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد
البابليين .
( مَسَائِلُ مُتَمِّمَةٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ )
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29433_31873عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ ، وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا ، وَيُشْرِكُونَ مَا ذُكِرَ بِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي
الْعِرَاقِ . وَقَدْ أَثْبَتَ
بَيْرُوسُوسُ وَسِنِيلُوسُ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ وَكُهَّانَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ
[ ص: 471 ] حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ . وَلَكِنْ كَانُوا يَدِينُونَ بِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُبِيحُونَهَا لِلْعَامَّةِ ، وَأَنَّ
الْيُونَانَ أَخَذُوا هَذَا النِّفَاقَ عَنْهُمْ . وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ أَوَّلًا هُمْ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ ، فَقَدْ كَانَ التَّوْحِيدُ مُنْتَهَى عِلْمِ حُكَمَائِهِمْ ، وَكَانُوا يَكْتُمُونَهُ عَنِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ اسْتِعْبَادَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَعْوَانُهُمْ لَهَا لَا يَدُومُ إِلَّا بِالْوَثَنِيَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا ، وَالْيُونَانُ اقْتَبَسُوا مِنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ . عَلَى أَنَّ
هِنْرِي رُولِنْسُنْ مِنْ مُدَقِّقِي مُؤَرِّخِي
أُورُبَّةَ قَالَ : إِنَّ أُمَّةً مِنْ ضِفَافِ
الدَّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ ارْتَحَلَتْ إِلَى
أُورُبَّةَ بِتِلْكَ الْعَقَائِدِ مَنْقُوشَةً فِي صَفَائِحِ الْآجُرِّ .
مِنْ آلِهَةِ
الْكَلْدَانِيِّينَ ( إِلْ ) وَهِيَ كَلِمَةٌ سَامِيَّةٌ عُرِفَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ : وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ ، وَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُلُّ اسْمٍ آخِرُهُ " إِلْ " وَ " إِيلُ " فَمُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ : أَلَّ الْمَرِيضُ وَالْحَزِينُ يَئِلُّ أَلَّا وَأَلَلًا : أَنَّ وَحَنَّ ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ . وَقَالَ فِي مَادَّةِ ( أ ي ل ) إِيلُ - بِالْكَسْرِ - اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ بَحْثٌ فِي كَوْنِ الْإِلِّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13247ابْنِ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ ، وَالْأُلُّ - بِالضَّمِّ - الْأَوَّلُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ قَالَ فِي ( إِيلٌ ) مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبْرَانِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ . ثُمَّ نُقِلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ جِبْرَائِيلَ وَشَرَاحِيلَ وَأَشْبَاهَهُمَا كَشُرَحْبِيلَ تُنْسَبُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ " لِأَنَّ إِيلًا لُغَةٌ فِي " إِلٍّ " وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، كَقَوْلِهِمْ : عَبْدُ اللَّهِ وَتَيْمُ اللَّهِ " أَقُولُ : وَنَقَلَ مِثْلَهُ فِي ( إِلٍّ ) وَضَعَّفَهُ بِمَنْعِ جِبْرِيلَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الصَّرْفِ ، أَيْ دُونَ شُرَحْبِيلَ وَشِهْمِيلَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ ، وَنَقَلَ عَنْ
أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيلُ عُرِّبَ فَقِيلَ : إِلٌّ . ثُمَّ قَالَ فِي مَادَّةِ ( ا ل هـ ) وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الشَّمْسَ لَمَّا عَبَدُوهَا إِلَهَةً ، وَالْإِلَهَةُ الشَّمْسُ الْحَارَّةُ - حُكِيَ عَنْ
ثَعْلَبٍ . وَالْأَلِيهَةُ وَالْأَلَاهَةُ ( بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ) وَأُلَاهَةٌ ( مَضْمُومَةُ الْهَمْزَةِ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ ) كُلُّهُ الشَّمْسُ . . إِلَخْ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ : الْأَلَاهَةُ الْأُلُوهَةُ وَالْأُلُوهِيَّةُ : الْعِبَادَةُ ، وَذَكَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْإِلَهِ بِالْمَعْبُودِ فِي أَوَّلِ الْمَادَّةِ قَوْلَهُمْ : إِلَهٌ بَيْنَ الْإِلَهَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْأُلْهَانِيَّةُ ، وَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَلِهَ يَأْلُهُ ( مِنْ بَابِ عَلِمَ ) إِذَا تَحَيَّرَ .
هَذَا وَإِنَّ دَلَالَةَ مَادَّةِ " أَ ل هـ " عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَعْبُودِ سَامِيَّةٌ قَدِيمَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ
الْكَلْدَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . قَالَ
الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ عِنْدَ تَعْرِيفِ اسْمِ ( اللَّهِ ) بِأَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ - أَيْ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَهُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَلُوهِيمُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَا تَكْثِيرًا ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ، وَ " يَهْوَهُ " أَيِ الْكَائِنُ ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى ، وَإِيلٌ أَيِ الْقَدِيرُ ، وَبِالسُّرْيَانِيَّةِ أُلُوهُو وَبِالْكَلْدَانِيَّةِ إِلَاهَا . انْتَهَى .
وَفِي تَوَارِيخِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعَادِيَّاتِ ( الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ ) أَنَّ أَعْظَمَ أَرْبَابِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَآلِهَتِهِمْ ( إِيلُ - أَوْ - إِلْ ) فَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ ، وَأَصْلُ الْآلِهَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ تِمْثَالٌ وَلَا صُورَةٌ فِي مَعَابِدِهِمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِمَّا وَرِثُوا مِنْ دِينِ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ
[ ص: 472 ] صِفَاتِ الْخَلْقِ وَتَخَيُّلَاتِهِمْ ، وَرَوَى
ديودورسُ عَنْ
فِيلُو أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِزُحَلَ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِزُحَلَ أَبُو الْمُشْتَرَى كَمَا قِيلَ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَارُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي عُصُورِ قُدَمَاءِ مُلُوكِهِمْ ، وَمِمَّا قَالُوا عَنْهُ فِي أَقْدَمِ الْخُرَافَاتِ أَنَّهُ أُولِدَ وَلَدَيْنِ ( أَنَا ) وَ ( بِيلُ ) . وَ ( أَنَا ) هَذَا هُوَ رَأْسُ ( الثَّالُوثِ ) الْكَلْدَانِيِّ ، وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الِاسْمَ بِمَعْنَى اسْمِ الْجَلَالَةِ ( اللَّهُ ) وَيَقُولُونَ : " أَنُو " - إِذَا كَانَ فَاعِلًا - وَ " أَنَا " إِذَا كَانَ مَفْعُولًا ، وَإِنِي إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ . وَمِنْ أَلْقَابِهِ عِنْدَهُمُ : الْقَدِيمُ ، وَالرَّأْسُ الْأَصْلِيُّ ، وَأَبُو الْآلِهَةِ ، وَرَبُّ الْأَرْوَاحِ وَالشَّيَاطِينِ ، وَمَلِكُ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ ، وَسُلْطَانُ الظَّلَامِ أَوْ رَأْسُ الْمَوْتِ . وَوُجِدَتْ آثَارُ عِبَادَتِهِ فِي مَدِينَةِ (
أَرَكَ ) وَهِيَ
الْوَرْكَاءُ ، قَالَ
يَاقُوتٌ :
الْوَرْكَاءُ مَوْضِعٌ
بِنَاحِيَةِ الرَّوَابِي ، وُلِدَ بِهِ
إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ بَنَى أَحَدُ مُلُوكِهِمْ مَعْبَدًا لَهُ وَلِابْنِهِ ( قَوَلَ ) فِي
أَشُورَ سَنَةَ 1830 قَبْلَ
الْمَسِيحِ ، فَصَارَ اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ (
تَلَّانَ ) وَأَصْلُهُ ( تَلُّ أَنَا ) جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آجُرٍّ لِلْمَلِكِ (
أَوْرَكَهْ ) اكْتُشِفَتْ فِي أَنْقَاضِ ( أَمِّ قَبْرٍ ) هَذِهِ تَرْجَمْتُهُ " إِنَّ إِلَهَ الْقَمَرِ ابْنُ شَقِيقِ ( أَنُو ) وَبِكْرُ ( بِعَلُوسَ ) قَدْ حَمَلَ عَبْدَهُ (
أَوْرَكَهْ ) الرَّئِيسَ التَّقِيَّ مَلِكُ (
أُورُ ) عَلَى بِنَاءِ هَيْكَلِ (
تَسِينْ كَاثُو ) مَعْبَدًا مُقَدَّسًا لَهُ " .
وَالثَّانِي مِنْ ثَالُوثِهِمْ ( بُلُوسُ - أَوْ - بِيلُ وَ ) لَعَلَّهُمَا مُحَرَّفَانِ عَنْ ( بَعْلَ ) وَ ( بَعْلُوسَ ) وَمِنْ أَسْمَائِهِمْ ( أَنُو ) وَ ( إِيلُ انْيُو ) وَمَعْنَاهُ السَّيِّدُ . وَتَلْحَقُ غَالِبًا بِلَفْظِ ( نَيْبِرُو ) وَمُؤَنَّثُهَا ( نَيْبُرُوثَ ) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ كَلِمَةِ ( نَمْرُودَ ) الَّتِي هِيَ فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ السَّبْعِينِيَّةِ ( نَيْبُرُوثُ ) وَكَلِمَةُ ( نَيْبُرُو ) مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلِمَةِ " بَابَارِ " السُّرْيَانِيَّةِ ، وَمَعْنَاهَا طَارَدَ . وَتَدُلُّ مَادَّةُ نَبَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِارْتِفَاعِ ، فَنَبَرَ : رَفَعَ ، وَالنَّبْرَةُ : الشَّيْءُ الْمُرْتَفِعُ ، فَفِيهَا مَعْنَى الشَّرَفِ ، وَمَعْنَاهَا فِي الْأَشُورِيَّةِ يُقَارِبُ مَعْنَاهَا فِي السُّرْيَانِيَّةِ ( فَبِيلُ نَبْرُو ) بِمَعْنَى السَّيِّدِ الصَّيَّادِ ، أَوْ رَبِّ الصَّيْدِ - وَلِذَلِكَ قِيلَ : إِنَّهُ نَمْرُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْوُحُوشَ . وَهُوَ بَعْلُوسُ الَّذِي ذَكَرَ مُؤَرِّخُو الْيُونَانِ أَنَّهُ يَأْتِي مَدِينَةَ ( بَابِلَ ) وَمِلِكُهَا الْأَوَّلُ ، وَدَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْأَشُورِيِّينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا مَدِينَةَ ( بَلْ نَبْرُو ) وَظَلَّ
الْكَلْدَانِيُّونَ يَعْبُدُونَ (
نَمْرُودَ ) مُدَّةَ وُجُودِ دَوْلَتِهِمْ ، وَكَانُوا يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْآلِهَةِ ، وَيُكَنُّونَ زَوْجَهُ الْمُسَمَّاةَ (
مُولِيتَا - أَوْ -
أَنُوتَا ) بِأُمِّ الْآلِهَةِ الْعِظَامِ ، وَلَكِنْ وُصِفَتْ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِأَنَّهَا زَوْجُ (
نِينَ ) وَهُوَ ابْنُهَا ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا زَوْجُ (
أَشُورَ ) وَلَهَا أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ ، وَوُجِدَ لَهَا عِدَّةُ هَيَاكِلَ .
وَالثَّالِثُ مِنْ ثَالُوثِهِمْ ( حُوَا - أَوْ - حَيَا ) وَهُوَ حَيَوَانٌ بَعْضُهُ كَالْإِنْسَانِ وَبَعْضُهُ كَالسَّمَكِ ، زَعَمُوا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ خَلِيجِ فَارِسَ لِيُعَلِّمَ سُكَّانَ ضِفَافِ النَّهْرَيْنِ عِلْمَ الْفَلَكِ وَالْأَدَبَ ، وَنُسِبَ إِلَيْهِ اخْتِرَاعُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ ، وَقَدْ وُجِدَ اسْمُهُ عَلَى صَحِيفَةٍ مِنَ الْآجُرِّ وُجِدَتْ فِي خَرَائِبِ ( أُورَ ) وَيَرَى بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ اسْمَهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْحَيَّةِ ، وَشِعَارُهُ فِي الْقَلَمِ الْكَلْدَانِيِّ الشَّكْلُ الْإِسْفِينِيُّ ، وَمِنْهُ رَسْمُ الْحَيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُنْتَهَى الذَّكَاءِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ ، وَلَهُ أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ .
[ ص: 473 ] وَكَانَ لِلْكَلْدَانِ ( ثَالُوثٌ ) آخِرُ أَحَدُ آلِهَتِهِ ( سِينِي ) وَهُوَ الْقَمَرُ ، وَهَذَا الِاسْمُ سَامِيٌّ ، فَاسْمُ الْقَمَرِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ سِينُ ، وَكَذَا فِي السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ ، وَمِنْ أَلْقَابِهِ زَعِيمُ الْأَرْبَابِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ( وَبَعْلُ رُونَا ) أَيْ رَبُّ الْبِنَاءِ ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهُ فِي جَمِيعِ تَطَوُّرَاتِهِ مُنْذُ يَكُونُ هِلَالًا ، وَلَهُ هَيَاكِلُ كَثِيرَةٌ ، وَأَعْظَمُ مَعَابِدِهِ فِي (
أُورَ ) .
وَالثَّانِي ( سَانُ ) أَوْ ( سَانْسِي ) وَهُوَ الشَّمْسُ ، وَالِاسْمُ سَامِيٌّ أَيْضًا ، وَمِنْهُ السَّنَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَهُوَ - بِالْقَصْرِ - الضِّيَاءُ ، وَقِيلَ : ضَوْءُ النَّارِ وَالْبَرْقِ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَعَمُّ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) ( 10 : 5 ) وَمِنْهُ ( شَانِي ) بِالْعِبْرِيَّةِ ، وَمَعْنَاهَا لَامِعٌ ، وَاسْمُ الشَّمْسِ بِاللُّغَةِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ ( سِيُونَا ) وَمِنْ أَلْقَابِ هَذَا الْإِلَهِ : رَبُّ النَّارِ ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ، وَكَانَ لَهُ هَيَاكِلُ فِي الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ وَأَشْهَرُهَا ( بَيْتُ بَارَا ) وَبَارَا أَوْ فَرَا اسْمُ الشَّمْسِ بِالْمِصْرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ ، وَكَانَ اسْمُ ( هِلْيُبُولِيسَ ) عِنْدَهُمْ ( سِيبَارَا ) وَتُسَمَّى فِي الْآثَارِ ( تِسِيبَارْ شَاشَامَاسْ ) وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ مَدِينَةُ الشَّمْسِ ، وَلِلشَّمْسِ زَوْجَةٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهَا ( أَيْ ) وَ ( كُولَا ) ( أَنُونِيتْ ) .
وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ ( فُولُ ) أَوْ ( ايفَا ) أَيِ الْهَوَاءُ ، وَهُوَ رَبُّ الْجَوِّ الْقَائِمُ بِتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ ، الْمُتَصَرِّفُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالْمَوَاسِمِ . وَمِنْ هَيَاكِلِهِ هَيْكَلٌ بَنَاهُ الْمَلِكُ ( شَمَّاسْ فُولْ ) الَّذِي مَلَكَ الْكَلْدَانَ سَنَةَ 1850 قَبْلَ الْمَسِيحِ .
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ ، وَكَوْنِهِ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَنَامِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ ، وَلَا رَأَى أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْغَابِرِينَ ، فَيَعْلَمُ مِنْهَا خَبَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْعَهْدِ الْعَتِيقِ مِنْ كَوْنِ كَاتِبِهِ ( عِزْرَا الْكَاهِنِ ) كَتَبَهُ بَعْدَ السَّبْيِ ، فَاقْتَبَسَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ تَقَالِيدِ
الْبَابِلِيِّينَ .