( المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=28663_28658معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان )
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، فالإله هو المعبود ، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها ، والرب : هو السيد المالك والمربي والمدبر المتصرف ، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم ، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال ، وملكه حقيقي تام ، وملك غيره عرفي ناقص موقوت ، له أجل محدود ، وهو المعبود بحق ، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب ; فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب ، وما فوق الأسباب ; لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها ، فهي خاضعة لسلطانه ، وكل ماعداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها .
nindex.php?page=treesubj&link=29433والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران :
( أحدهما أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه ، فتوهموا
[ ص: 474 ] أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات ; لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره ، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شئونه ( أي شئون صاحب الخصوصية ) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة .
( ثانيهما ) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق ، تشفع عنده ، وتقرب إليه كل من توجه إليها ، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها ، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى - بتأثيرها عنده - على قبوله وإعطائه سؤله ، وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=28705التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات ، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته ، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية . وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة ; ولذلك كانوا يقولون في طوافهم :
لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
وكان بعض
قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا ، إذ إنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم ، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم ، كما يعلم من محاجته - عليه الصلاة والسلام - لهم في سورة الشعراء ( 26 : 69 ) إلخ . ولذلك اتخذوها آلهة معبودين ، لا أربابا مدبرين ، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض ، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له ، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ، ونير الأرض والسماء ، يدبر الملوك ، ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام ، وينصر جندهم ، ويخذل عدوهم ، ويمزقه كل ممزق ، ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه ( بيني ) ويعتقدون أن ( مرداخ ) وهو المشترى - شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام ، حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات - وأن ( رنكال ) وهو المريخ كمي الأرباب ، ورب الصيد ، وسلطان الحرب ، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد ، وذاك المقدم في الحرب ، وأن ( عشتار - أو - نانا ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ، ومفيضة السرور على الناس ، وتمثل في الآثار بامرأة عارية ، وأن ( نبو ) وهو عطارد رب العلم والحكمة .
وكانت
nindex.php?page=treesubj&link=28666_31851حجة إبراهيم البالغة في حصر العبادة بالتوجه فيها إلى فاطر السماوات والأرض وحده دون غيره من الوسائط والوسائل ، ومثلها في سورة الأنبياء فقد قال في تماثيلهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=56بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ) ( 21 : 56 ) وبهذا كان
[ ص: 475 ] يحتج جميع الرسل عليهم السلام ، وهو أقوى الحجج وأظهرها ، وأما ما ذكره
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من التعريض قبلها فهو تمهيد لها .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28663_28658مَعْنَى الرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَشُبْهَةُ الشِّرْكِ وَكَوْنُهُ قِسْمَانِ )
ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً لَا أَرْبَابًا ، وَيَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا آلِهَةً ، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ ، فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا ، وَالرَّبُّ : هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ وَالْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ الْمُتَصَرِّفُ ، وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ رَبٌّ وَلَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ ، فَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ ، وَمُلْكُهُ حَقِيقِيٌّ تَامٌّ ، وَمُلْكُ غَيْرِهِ عُرْفِيٌّ نَاقِصٌ مَوْقُوتٌ ، لَهُ أَجْلٌ مَحْدُودٌ ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ ، إِذِ الْعِبَادَةُ الْحَقُّ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلرَّبِّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوَجُّهُ بِالدُّعَاءِ وَكُلِّ تَعْظِيمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ إِلَى ذِي السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ ، وَمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لَهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا ، فَهِيَ خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ ، وَكُلُّ مَاعَدَاهُ فَهُوَ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهَا بَلْ سُلْطَانُهُ فِيهَا .
nindex.php?page=treesubj&link=29433وَالْأَصْلُ فِي اخْتِرَاعِ كُلِّ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَمْرَانِ :
( أَحَدُهُمَا أَنَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ رَأَوْا بَعْضَ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ خَلْقِهِ ، فَتَوَهَّمُوا
[ ص: 474 ] أَنَّ ذَلِكَ ذَاتِيٌّ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ لَيْسَ خَاضِعًا لِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ; لِقِصَرِ إِدْرَاكِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَوْنِ الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ خَاصَّةً بِخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَمَا امْتَازَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَوْنِ خَفَاءِ سَبَبِ الْخُصُوصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ خُضُوعِ صَاحِبِهَا لِسُنَنِ الْخَالِقِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شُئُونِهِ ( أَيْ شُئُونِ صَاحِبِ الْخُصُوصِيَّةِ ) وَوَثَنِيَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ السَّافِلَةُ .
( ثَانِيهِمَا ) اتِّخَاذُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي مَظَاهِرِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَسِيلَةً إِلَى الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ ، تَشْفَعُ عِنْدَهُ ، وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا ، أَوِ التَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُمَثِّلُهَا أَوْ يُذَكِّرُ بِهَا ، فَيَتَوَسَّلُ ذُو الْحَاجَةِ بِدُعَائِهَا وَتَعْظِيمِهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ لِأَجَلِ حَمْلِهِ تَعَالَى - بِتَأْثِيرِهَا عِنْدَهُ - عَلَى قَبُولِهِ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُ ، وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28705التَّوَسُّلُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ عَدَمِ انْفِرَادِ الرَّبِّ بِالِاسْتِقْلَالِ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ ، وَكَوْنِهِ يَفْعَلُ بِتَأْثِيرِ الْوَسِيلَةِ فِي إِرَادَتِهِ ، وَهَذَا شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةِ . وَهَذِهِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ الرَّاقِيَةُ الَّتِي كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ :
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ .
وَكَانَ بَعْضُ
قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدِ ارْتَقَوْا فِي وَثَنِيَّتِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَوْشَكُوا ، إِذْ إِنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَلَا تُبْصِرُ عِبَادَتَهُمْ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَلَا ضُرِّهِمْ ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا بِعِبَادَتِهَا آبَاءَهُمْ ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مُحَاجَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ( 26 : 69 ) إِلَخْ . وَلِذَلِكَ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مَعْبُودِينَ ، لَا أَرْبَابًا مُدَبِّرِينَ ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ السَّبَبِيِّ أَوِ الْوَهْمِيِّ فِي الْأَرْضِ ، وَتَوَسَّعُوا فِي إِسْنَادِ التَّأْثِيرِ إِلَيْهَا حَتَّى اخْتَرَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ لَهُ ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الشَّمْسَ رَبُّ النَّارِ ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ، يُدَبِّرُ الْمُلُوكَ ، وَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ ، وَيَنْصُرُ جُنْدَهُمْ ، وَيَخْذُلُ عَدُوَّهُمْ ، وَيُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، وَيَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي زُحَلَ وَاسْمُهُ ( بِينِي ) وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ( مِرْدَاخَ ) وَهُوَ الْمُشْتَرَى - شَيْخُ الْأَرْبَابِ وَرَبُّ الْعَدْلِ وَالْأَحْكَامِ ، حَافَظُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخُصُومُ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ - وَأَنَّ ( رَنْكَالَ ) وَهُوَ الْمِرِّيخُ كَمِيُّ الْأَرْبَابِ ، وَرَبُّ الصَّيْدِ ، وَسُلْطَانُ الْحَرْبِ ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَ زُحَلَ فِي تَدْبِيرِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّيْدِ ، وَذَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ ، وَأَنْ ( عِشْتَارَ - أَوْ - نَانَا ) وَهِيَ الزُّهَرَةُ رَبَّةُ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ ، وَمُفِيضَةُ السُّرُورِ عَلَى النَّاسِ ، وَتُمَثَّلُ فِي الْآثَارِ بِامْرَأَةٍ عَارِيَةٍ ، وَأَنَّ ( نَبْوَ ) وَهُوَ عُطَارِدٌ رَبُّ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ .
وَكَانَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=28666_31851حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْبَالِغَةَ فِي حَصْرِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي تَمَاثِيلِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=56بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) ( 21 : 56 ) وَبِهَذَا كَانَ
[ ص: 475 ] يَحْتَجُّ جَمِيعُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُهَا ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ
إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّعْرِيضِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهَا .