(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150nindex.php?page=treesubj&link=28973ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ) أي : ومن أي مكان خرجت وفي أي بقعة حللت فول وجهك في صلاتك شطر
المسجد الحرام ، فهو حكم عام ، قال الأستاذ الإمام : أعاد الأمر في صورة أخرى ليبين أنه شريعة عامة في كل زمان ومكان لا يختص ببلاد دون أخرى ولا بحضر دون سفر . وقد كان الأمر بالتحويل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فأعلمه بصيغة الأمر أنه ليس خاصا بتلك الصلاة ولا بذلك المكان ; بل عليه أن يفعل ذلك من حيث خرج وأين توجه ، ومن مزايا هذه القبلة أن أصحابها يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها من أقطار الأرض المختلفة ، وقد وثق الأمر وأكده بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=149وإنه للحق من ربك ) أي : وإن توليك إياه لهو الحق المحكم بوحي ربك فلا ينسخ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=149وما الله بغافل عما تعملون )
[ ص: 20 ] أي : إنكم أيها المخاطبون باتباع النبي في كل ما يجيء به من أمر الدين تحت نظر الحق دائما فهو لا يغفل عن أعمالكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( 24 : 63 ) وفي الكلام التفات عن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خطاب جميع المكلفين ، بما فيه من التعريض والتهديد للمنافقين ، وقرأ
أبو عمرو ( يعملون ) بالياء ، وهو يعود إلى أولئك المجادلين في القبلة . يقول لنبيه : لا يحزنك أمرهم ; فإن الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم ، وما هو بغافل عن فسادهم وفتنتهم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ابتدأ هذه الآية بصيغة الأمر الواردة في الآية قبلها ، وقرن بها صيغة الأمر السابقة وجمع فيها بين خطاب النبي وخطاب الأمة ; ليرتب على ذلك التعليل وبيان الحكم له وهي ثلاث : الأولى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ليس هذا الجمع والإعادة لمجرد التأكيد كما قال مفسرنا (
الجلال ) وغيره ، وإنما هو تمهيد للعلة وتوطئة ; لبيان الحكم الموصولة به ، وهو أسلوب معهود عند البلغاء ، والمتأخرون الذين لا يذوقون طعم الأساليب البليغة يكتفون في مثل هذا المقام بقولهم : كل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة ، وهو نظم غير معهود في الكلام البليغ ولا سيما مقام الإطناب والتأكيد والاحتجاج وإزالة الشبه ، والمراد بالناس : المحاجون في القبلة المعروفون ; وهم
أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون .
ووجه
nindex.php?page=treesubj&link=29376انتفاء حجتهم على الطعن في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة : هو أن
أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد
إسماعيل يكون على قبلته وهي
الكعبة ، فجعل
بيت المقدس قبلة دائمة له حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به ، فلما كان التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم ، وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد
إبراهيم جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه وكان يصلي هو
وإسماعيل إليه ، فدحضت حجة الفريقين وكبت المنافقون من ورائهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150إلا الذين ظلموا منهم ) أي : لكن الذين ظلموا منهم يظلون يلغطون بالاحتجاج جهلا أو عنادا للإضلال ، كقول
اليهود : رجع إلى قبلة قومه لإرضائهم وسيرجع إلى دينهم ، وقول المشركين : رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا ، وقول المنافقين : إنه مضطرب متردد لا يثبت على قبلة . وأمثال هذه الآراء التي يزينها الهوى للأعداء ، فهم لا يهتدون بكتاب ولا يعتبرون ببرهان ، ولا ينظرون إلى حكم الأمور وأسرارها بل يجادلون في الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير ، وهم الذين أثاروا الفتنة ، وحركوا رياح الشبه في مسألة القبلة ، ولا قيمة لما يقول هؤلاء الظالمون ; فإنهم هم السفهاء كما وصفوا في الآية الأولى (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150فلا تخشوهم ) إذ لا مرجع لكلامهم من الحق ، ولا تمكن له في النفس ; لأنه لا يستند إلى برهان عقلي ولا إلى هدي سماوي ( واخشوني ) أنا ، فلا تعصوني بمخالفة ما جاءكم به
[ ص: 21 ] رسولي عني ، فإنني القدير على جزائكم بما وعدتكم وأوعدتكم ، وقد وعدت الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات بأن أمكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، وإنني لا أخلف الميعاد .
والآية ترشدنا إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى ; فإن الحق يعلو ولا يعلى ، وما آفة الحق إلا ترك أهله له ، وخوفهم من أهل الباطل فيه .
وذكر الأستاذ الإمام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشتبه عليه الأمر فيترك الحق لأنه عمي عليه ، ولو ظهر له لأخذ به ، وهو أيضا لا يخشى جانبه ، خلافا لما فهم بعض الطلاب من كلام الأستاذ ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به ، فأولئك لا يخشون ولا يبالى بهم ، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالى به ، ويعتنى بأمره بتوضيح السبيل ، وتفصيل الدليل ، لما يرجى من قرب رجوعه إليه إذا عرفه ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150إلا الذين ظلموا ) يعم
اليهود ومشركي العرب والمنافقين خلافا لمن قالوا : إنهم المشركون خاصة ، مع أنهم فسروا السفهاء بما يعم الفريقين أو الثلاثة ، وما هؤلاء الذين ظلموا إلا أولئك السفهاء الذين اعترضوا .
ثم ذكر العلة أو الحكمة الثانية فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ولأتم نعمتي عليكم ) باستقلال قبلتكم في بيت ربكم الذي بناه جدكم ، وجعل الأمم فيها تبعا لكم ، وبيانه أن هذا النبي عربي من ولد
إبراهيم ، وبلسان العرب نزل عليه الكتاب ، وهم قومه الذين بعث فيهم أولا وظهرت دعوته فيهم وامتدت منهم وبهم إلى سائر الأمم ، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام ، وأن يحيوا سنة
إبراهيم بتطهيره من عبادة الأصنام ; لأنه معبدهم وأشرف أثر عندهم ، ينسب إلى أبيهم
إبراهيم الذي بناه ورفع قواعده لعبادة الله تعالى ، وهو شرفهم ومجدهم ، وموطن عزهم وفخرهم ، فأتم الله عليهم النعمة بإعطائهم ما يحبون ، وتوجيه جميع شعوب الإسلام إلى بلادهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما لا يحصى من النعم . نعم ; إن
nindex.php?page=treesubj&link=29641كل أمر من الله تعالى فامتثاله نعمة ، ولكنه إذا كان فيه حكمة ظاهرة وشرف للأمة يتعلق بتاريخها الماضي وبمجدها الآتي ، وكان أثره حميدا نافعا فيها ، تكون النعمة به أتم والمنة أكمل ; ولذلك عبر بالإتمام .
وذكر الأستاذ الإمام
nindex.php?page=treesubj&link=29376من الحكمة في جعل القبلة في أول الأمر بيت المقدس : أن
الكعبة كانت في أول الإسلام مشغولة بالأصنام والأوثان ، وكان سلطان أهل الشرك متمكنا فيها ، والأمل في انكشافه عنها بعيدا فصرفه الله أولا عن استقبال بيت مدنس بعبادة الشرك - وقد كان الله أمر
إبراهيم بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود - إلى
بيت المقدس قبلة
اليهود الذين هم أقرب من المشركين إلى ما جاء به من التوحيد والتنزيه ، ولما قرب زمن تطهير
البيت الحرام من الأصنام والأوثان وعبادتها وإزالة سلطة الوثنيين عنه ، جعله الله تعالى قبلة
[ ص: 22 ] للموحدين ; ليوجه النفوس إليه فيكون ذلك مقدمة لتطهيره وإتمام النعمة بالاستيلاء عليه ، والسير فيه على ملة
إبراهيم من التوحيد والعبادة الصحيحة لله تعالى وحده .
أقول : ويؤيده ما قرره الأستاذ الإمام في تفسير الإتمام وكون تحويل القبلة مقدمة له قوله تعالى بعد ذكر فتح
مكة في سورة الفتح : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=2ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ) ( 48 : 2 ) فكان في الآية بشارة بفتح
مكة ، ونصر الله التوحيد على الشرك وما يتلو ذلك من نشر الإسلام ، وانتشار نوره في الأنام ; ولذلك قال في سورة الفتح بعدما ذكر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=3وينصرك الله نصرا عزيزا ) ( 48 : 3 ) .
ثم ذكر سبحانه وتعالى
nindex.php?page=treesubj&link=29376الحكمة الثالثة لتحويل القبلة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ولعلكم تهتدون ) أي : وليعدكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق والرسوخ فيه ، فإن المعارضات والمحاجات تظهر ضعف الباطل وزهوقه ، وتبين قوة الحق وثبوته ، فالحجة تتبختر اتضاحا ، والشبهة تتضاءل افتضاحا ، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لأهل الحق ، وترخي سدول ظلمته على أهل الباطل ، وتمحص المؤمنين ، وتمحق الكافرين .
كل إنسان يرى نفسه على الحق في الجملة ، ولكن التمكن في المعرفة والثبات على الحق لا يعرف في الغالب إلا إذا وجد للمحق خصم ينازعه ويعارضه في الحق ، هنالك تتوجه قواه إلى تأييد حقه وتمكينه ، ويحس بحاجته إلى المناضلة دونه والثبات عليه ، وكثيرا ما يظهر الباطل الحق بعد خفائه ; فإن المعارضة في الحق تحمل صاحبه على تنقيحه وتحريره وتنقيته مما عساه يلتصق به أو يجاوره من غواشي الباطل ، وتجعل علمه به مفصلا بعد أن كان مجملا ، ومبرهنا عليه بعد أن كان مسلما ، فهي مدرجة الكمال لأهل اليقين ، ومزلة الريب للمقلدين . قال بعض
الصوفية : جزى الله أعداءنا عنا خيرا إذ لولاهم ما وصلنا إلى شيء من مقامات القرب . وقال الشاعر :
عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ذلك بأن العدو ينقب عن الزلات ، ويبحث في الهفوات ، وطالب الحق يتوجه دائما إلى الاستفادة من كل شيء ، والنظر من كل أمر إلى موضع العبرة وطريق الحقيقة ، فإذا وجد في كلام العدو مغمزا صحيحا توقاه ، أو عثارا في طريقه نحاه ، وإن ظهر له أنه باطل ثبت على حقه ، وعرف منافذ الطعن فيه فسدها ، فكان بذلك من الكملة الراسخين ; لهذا كله كانت
nindex.php?page=treesubj&link=29376_32484الفتنة التي أثارها السفهاء على المؤمنين في مسألة القبلة معدة للاهتداء ووسيلة إلى الثبات على الحق بعد نزول هذه الآيات البينات والحجج الناهضات في بيانه وحكمة الله تعالى فيه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150nindex.php?page=treesubj&link=28973وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أَيْ : وَمِنْ أَيِّ مَكَانٍ خَرَجْتَ وَفِي أَيِّ بُقْعَةٍ حَلَلْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ فِي صَلَاتِكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَعَادَ الْأَمْرَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَا يَخْتَصُّ بِبِلَادٍ دُونَ أُخْرَى وَلَا بِحَضَرٍ دُونَ سَفَرٍ . وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ بِالتَّحْوِيلِ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَأَعْلَمَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ ; بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ وَأَيْنَ تَوَجَّهَ ، وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الْقِبْلَةِ أَنَّ أَصْحَابَهَا يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَقَدْ وَثَّقَ الْأَمْرَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=149وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أَيْ : وَإِنَّ تَوَلِّيَكَ إِيَّاهُ لَهُوَ الْحَقُّ الْمُحْكَمُ بِوَحْيِ رَبِّكَ فَلَا يُنْسَخُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=149وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )
[ ص: 20 ] أَيْ : إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَحْتَ نَظَرِ الْحَقِّ دَائِمًا فَهُوَ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( 24 : 63 ) وَفِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ ، وَقَرَأَ
أَبُو عَمْرٍو ( يَعْمَلُونَ ) بِالْيَاءِ ، وَهُوَ يَعُودُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ فِي الْقِبْلَةِ . يَقُولُ لِنَبِيِّهِ : لَا يَحْزُنْكَ أَمْرُهُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ ، وَمَا هُوَ بِغَافِلٍ عَنْ فَسَادِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا ، وَقَرَنَ بِهَا صِيغَةَ الْأَمْرِ السَّابِقَةِ وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ خِطَابِ النَّبِيِّ وَخِطَابِ الْأُمَّةِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلَ وَبَيَانَ الْحِكَمِ لَهُ وَهِيَ ثَلَاثٌ : الْأُولَى قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) لَيْسَ هَذَا الْجَمْعُ وَالْإِعَادَةُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (
الْجَلَالُ ) وَغَيْرُهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْعِلَّةِ وَتَوْطِئَةٌ ; لِبَيَانِ الْحِكَمِ الْمَوْصُولَةِ بِهِ ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ لَا يَذُوقُونَ طَعْمَ الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ يَكْتَفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ : كُلُّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ، وَهُوَ نَظْمٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَا سِيَّمَا مَقَامُ الْإِطْنَابِ وَالتَّأْكِيدِ وَالِاحْتِجَاجِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ : الْمُحَاجُّونَ فِي الْقِبْلَةِ الْمَعْرُوفُونَ ; وَهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمَا الْمُنَافِقُونَ .
وَوَجْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29376انْتِفَاءِ حُجَّتِهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ : هُوَ أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُبْعَثُ مِنْ وَلَدِ
إِسْمَاعِيلَ يَكُونُ عَلَى قِبْلَتِهِ وَهِيَ
الْكَعْبَةُ ، فَجَعْلُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً دَائِمَةً لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ ، فَلَمَّا كَانَ التَّحْوِيلُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ
إِبْرَاهِيمَ جَاءَ لِإِحْيَاءِ مِلَّتِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ غَيْرَ بَيْتِ رَبِّهِ الَّذِي بَنَاهُ وَكَانَ يُصَلِّي هُوَ
وَإِسْمَاعِيلُ إِلَيْهِ ، فَدُحِضَتْ حُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَكُبِتَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أَيْ : لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَظَلُّونَ يَلْغَطُونَ بِالِاحْتِجَاجِ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا لِلْإِضْلَالِ ، كَقَوْلِ
الْيَهُودِ : رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ قَوْمِهِ لِإِرْضَائِهِمْ وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِهِمْ ، وَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ : رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا ، وَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ : إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ مُتَرَدِّدٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى قِبْلَةٍ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الْهَوَى لِلْأَعْدَاءِ ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِكِتَابٍ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِبُرْهَانٍ ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى حِكَمِ الْأُمُورِ وَأَسْرَارِهَا بَلْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ ، وَحَرَّكُوا رِيَاحَ الشُّبَهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ ، وَلَا قِيمَةَ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ ; فَإِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ كَمَا وُصِفُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150فَلَا تَخْشَوْهُمْ ) إِذْ لَا مَرْجِعَ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْحَقِّ ، وَلَا تَمَكُّنَ لَهُ فِي النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ وَلَا إِلَى هَدْيً سَمَاوِيٍّ ( وَاخْشَوْنِي ) أَنَا ، فَلَا تَعْصُونِي بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ
[ ص: 21 ] رَسُولِي عَنِّي ، فَإِنَّنِي الْقَدِيرُ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ وَأَوْعَدْتُكُمْ ، وَقَدْ وَعَدْتُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَنْ أُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَيْتُ لَهُمْ وَأُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، وَإِنَّنِي لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ .
وَالْآيَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الَّذِي يُخْشَى جَانِبُهُ وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْشَى ; فَإِنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَمَا آفَةُ الْحَقِّ إِلَّا تَرْكُ أَهْلِهِ لَهُ ، وَخَوْفُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ .
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا مَنْ لَهُ شُبْهَةُ حَقٍّ كَصَاحِبِ النِّيَّةِ السَّلِيمَةِ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَيَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ عَمِيَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ لَأَخَذَ بِهِ ، وَهُوَ أَيْضًا لَا يُخْشَى جَانِبُهُ ، خِلَافًا لِمَا فَهِمَ بَعْضُ الطُّلَّابِ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ مُشَارَكَةِ الظَّالِمِينَ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ ، فَأُولَئِكَ لَا يُخْشَوْنَ وَلَا يُبَالَى بِهِمْ ، وَهَذَا لَا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ وَلَكِنَّهُ يُبَالَى بِهِ ، وَيُعْتَنَى بِأَمْرِهِ بِتَوْضِيحِ السَّبِيلِ ، وَتَفْصِيلِ الدَّلِيلِ ، لِمَا يُرْجَى مِنْ قُرْبِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ إِذَا عَرَفَهُ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يَعُمُّ
الْيَهُودَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُنَافِقِينَ خِلَافًا لِمَنْ قَالُوا : إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً ، مَعَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السُّفَهَاءَ بِمَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةَ ، وَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا .
ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ أَوِ الْحِكْمَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) بِاسْتِقْلَالِ قِبْلَتِكُمْ فِي بَيْتِ رَبِّكُمُ الَّذِي بَنَاهُ جَدُّكُمْ ، وَجَعَلَ الْأُمَمَ فِيهَا تَبَعًا لَكُمْ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عَرَبِيٌّ مِنْ وَلَدِ
إِبْرَاهِيمَ ، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، وَهُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ أَوَّلًا وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ وَامْتَدَّتْ مِنْهُمْ وَبِهِمْ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ ، وَكَانُوا إِذَا آمَنُوا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ وِجْهَتُهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ بَيْتَهُمُ الْحَرَامَ ، وَأَنْ يُحْيُوا سُنَّةَ
إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ; لِأَنَّهُ مَعْبَدُهُمْ وَأَشْرَفُ أَثَرٍ عِنْدَهُمْ ، يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِمْ
إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَاهُ وَرَفَعَ قَوَاعِدَهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ شَرَفُهُمْ وَمَجْدُهُمْ ، وَمَوْطِنُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ ، فَأَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ بِإِعْطَائِهِمْ مَا يُحِبُّونَ ، وَتَوْجِيهِ جَمِيعِ شُعُوبِ الْإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِهِمْ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ النِّعَمِ . نَعَمْ ; إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29641كُلَّ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَامْتِثَالُهُ نِعْمَةٌ ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَشَرَفٌ لِلْأُمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِتَارِيخِهَا الْمَاضِي وَبِمَجْدِهَا الْآتِي ، وَكَانَ أَثَرُهُ حَمِيدًا نَافِعًا فِيهَا ، تَكُونُ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالْمِنَّةُ أَكْمَلَ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالْإِتْمَامِ .
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=treesubj&link=29376مِنَ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ : أَنَّ
الْكَعْبَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَشْغُولَةً بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ، وَكَانَ سُلْطَانُ أَهْلِ الشِّرْكِ مُتَمَكِّنًا فِيهَا ، وَالْأَمَلُ فِي انْكِشَافِهِ عَنْهَا بَعِيدًا فَصَرَفَهُ اللَّهُ أَوَّلًا عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتٍ مُدَنَّسٍ بِعِبَادَةِ الشِّرْكِ - وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ
إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةِ
الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ ، وَلَمَّا قَرُبَ زَمَنُ تَطْهِيرِ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَعِبَادَتِهَا وَإِزَالَةِ سُلْطَةِ الْوَثَنِيِّينَ عَنْهُ ، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبْلَةً
[ ص: 22 ] لِلْمُوَحِّدِينَ ; لِيُوَجِّهَ النُّفُوسَ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِتَطْهِيرِهِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ ، وَالسَّيْرِ فِيهِ عَلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ .
أَقُولُ : وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْإِتْمَامِ وَكَوْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مُقَدِّمَةً لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ فَتْحِ
مَكَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=2وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) ( 48 : 2 ) فَكَانَ فِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ بِفَتْحِ
مَكَّةَ ، وَنَصْرِ اللَّهِ التَّوْحِيدَ عَلَى الشِّرْكِ وَمَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنْ نَشْرِ الْإِسْلَامِ ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي الْأَنَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ بَعْدَمَا ذَكَرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=3وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) ( 48 : 3 ) .
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=29376الْحِكْمَةَ الثَّالِثَةَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أَيْ : وَلْيُعِدَّكُمْ بِذَلِكَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُوخِ فِيهِ ، فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْمَحَاجَّاتِ تُظْهِرُ ضَعْفَ الْبَاطِلِ وَزُهُوقَهُ ، وَتُبَيِّنُ قُوَّةَ الْحَقِّ وَثُبُوتَهُ ، فَالْحُجَّةُ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا ، وَالشُّبْهَةُ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا ، وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْكَوْنِ بِأَنَّ الْفِتَنَ تُنِيرُ الطَّرِيقَ لِأَهْلِ الْحَقِّ ، وَتُرْخِي سُدُولَ ظُلْمَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ ، وَتُمَحِّصُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَمْحَقُ الْكَافِرِينَ .
كُلُّ إِنْسَانٍ يَرَى نَفْسَهُ عَلَى الْحَقِّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَكِنَّ التَّمَكُّنَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ لَا يُعْرَفُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ لِلْمُحِقِّ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ وَيُعَارِضُهُ فِي الْحَقِّ ، هُنَالِكَ تَتَوَجَّهُ قُوَاهُ إِلَى تَأْيِيدِ حَقِّهِ وَتَمْكِينِهِ ، وَيُحِسُّ بِحَاجَتِهِ إِلَى الْمُنَاضَلَةِ دُونَهُ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، وَكَثِيرًا مَا يُظْهِرُ الْبَاطِلُ الْحَقَّ بَعْدَ خَفَائِهِ ; فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الْحَقِّ تَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَنْقِيحِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِمَّا عَسَاهُ يَلْتَصِقُ بِهِ أَوْ يُجَاوِرُهُ مِنْ غَوَاشِي الْبَاطِلِ ، وَتَجْعَلُ عِلْمَهُ بِهِ مُفَصَّلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُجْمَلًا ، وَمُبَرْهَنًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَلَّمًا ، فَهِيَ مُدْرِجَةُ الْكَمَالِ لِأَهْلِ الْيَقِينِ ، وَمَزَلَّةُ الرَّيْبِ لِلْمُقَلِّدِينَ . قَالَ بَعْضُ
الصُّوفِيَّةِ : جَزَى اللَّهُ أَعْدَاءَنَا عَنَّا خَيْرًا إِذْ لَوْلَاهُمْ مَا وَصَلْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْقُرْبِ . وَقَالَ الشَّاعِرُ :
عِدَاتِي لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَّةٌ فَلَا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّي الْأَعَادِيَا هُمُ بَحَثُوا عَنْ زَلَّتِي فَاجْتَنَبْتُهَا
وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا
ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَدُوَّ يُنَقِّبُ عَنِ الزَّلَّاتِ ، وَيَبْحَثُ فِي الْهَفَوَاتِ ، وَطَالِبُ الْحَقِّ يَتَوَجَّهُ دَائِمًا إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَالنَّظَرِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا وَجَدَ فِي كَلَامِ الْعَدُوِّ مَغْمَزًا صَحِيحًا تَوَقَّاهُ ، أَوْ عِثَارًا فِي طَرِيقِهِ نَحَّاهُ ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ثَبَتَ عَلَى حَقِّهِ ، وَعَرَفَ مَنَافِذَ الطَّعْنِ فِيهِ فَسَدَّهَا ، فَكَانَ بِذَلِكَ مِنَ الْكَمَلَةِ الرَّاسِخِينَ ; لِهَذَا كُلِّهِ كَانَتِ
nindex.php?page=treesubj&link=29376_32484الْفِتْنَةُ الَّتِي أَثَارَهَا السُّفَهَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مُعِدَّةٌ لِلِاهْتِدَاءِ وَوَسِيلَةٌ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ النَّاهِضَاتِ فِي بَيَانِهِ وَحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ .