ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) أي : يتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي
[ ص: 23 ] جعله قبلة لكم ، وتطهيركم إياه من عبادة الأصنام والأوثان ، وهو البيت الذي في قلب بلادكم ، وموضع شرفكم وفخركم ، كما أتمها عليكم بإرساله رسولا منكم ، فالقبلة في بلادكم ، والرسول من أمتكم ، والخطاب للعرب كما هو ظاهر . ثم وصف هذا الرسول بالأوصاف التي كان بها نعمة تامة ، ورحمة شاملة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151يتلو عليكم آياتنا ) الدالة على أن ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله ، وهذه الآيات أعم من أن تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على أصول الدين ، وقد تقدم في تفسير الآيات في دعوة
إبراهيم بأن الآيات يصح أن يراد بها الآيات الكونية والعقلية وأن يراد بها آيات الوحي ، والتعميم أولى ، وإنما خصها بعض المفسرين بآيات القرآن بقرينة ( يتلو ) على أن التلاوة أعم ، فكل برهان يقيمه فقد تلا عليهم عبارته ، وذكر لهم فيه آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، ووجه المنة أنه يقودهم إلى الحق بالدليل والبرهان دون التقليد والتسليم بغير فهم ولا إذعان ، والطريقة الأولى يكون بها العقل مستقلا ، والدين مؤيدا له وهاديا ، لا مرغما ولا معطلا ، هذا ملخص ما قرره شيخنا .
والمختار عندنا أن المراد بالآيات آيات القرآن باعتبار ما اشتملت عليه من الآيات العقلية والعلمية على أصول العقائد والقواعد ، فهي في نفسها آية على النبوة والرسالة بأنواع إعجازها التي تقدم بيانها ( ص 159 - 191 ج1 ) وتشتمل على آيات كثيرة ; على التوحيد والبعث وأصول الإسلام كلها .
الآيات تتعلق بإثبات العقائد وأصول الدين وهي المقصد الأول ، ويليها تهذيب الأخلاق ; ولذلك قال : ( ويزكيكم ) أي : يطهر نفوسكم من الأخلاق السافلة ، والرذائل الممقوتة ، ويخلقها بالأخلاق الحميدة بما لكم فيه من حسن الأسوة لا بالقهر والسطوة ، وخص المفسر (
الجلال ) التزكية بالتطهير من الشرك .
قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يصح فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28640الإسلام كما جاء بالتوحيد الماحي للشرك ، جاء بالتهذيب المطهر من سفساف الأخلاق وقبائح العادات والمعاصي التي كانت فاشية في العرب ، فقد كانوا يئدون بناتهم - يدفنونهن حيات - ويقتلون أولادهم للتخلص من النفقة عليهم وذلك نهاية القسوة والشح ، وكانوا يسفكون الدماء فيما بينهم لأهون سبب يثير حميتهم الجاهلية ; لما اعتادوه من البغي في الثارات ومن شن الغارات ونهب بعضهم بعضا ، وكان عندهم من التسفل أن أحدهم يتزوج زوج أبيه أو يعضلها حتى تفتدي منه ، إلى غير ذلك . وقد زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله باقتدائهم بأخلاقه العظيمة في عباداته الكاملة وآدابه العالية ، وجمعهم بعد تلك الفرقة ، وألف الله بينهم على يديه حتى صاروا كرجل واحد ، وجعلت شريعته ذمتهم واحدة يسعى بها أدناهم ، فإذا أعطى مولى أو رقيق لهم أمانا لأي إنسان محارب كان ذلك كتأمين أمير المؤمنين له ، فأي تزكية أعلى من هذه التزكية ؟ .
[ ص: 24 ] وأقول : إنهم بزكاة أنفسهم هذه فتحوا العالم وكانوا أئمة أمم المدنية التي كانت تحتقر جنسهم كله ، فإن الأعاجم إنما عرفوا فضل الإسلام بعدلهم وفضلهم في فتوحهم ، وما فهموا القرآن إلا بعد إسلامهم وتعلمهم العربية . والرسول الذي زكى هذه الأمة التي زكت أمما كثيرة حقيق بأن تكون نفسه أزكى الأنفس وأكملها ، ولكننا علمنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28753_29638بعض دعاة النصرانية يستدل بآية ( nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=19لأهب لك غلاما زكيا ) ( 19 : 19 ) على تفضيل عيسى على محمد - عليهما السلام - ووصف الغلام بالزكي لا يدل على أنه أفضل من سائر الغلمان ، فضلا عمن زكى الأنام . وقد قال تعالى في قصة
موسى عليه السلام مع العبد الذي علمه من لدنه علما (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) ( 18 : 74 ) الآية ، فهل يزعمون أن هذا الغلام أفضل من
موسى وإبراهيم عليهما السلام ; لأنهما لم يوصفا بوصفه ؟
وبعد ذكر التربية العملية بالأسوة الحسنة ذكر أمر التعليم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151ويعلمكم الكتاب والحكمة ) أي : الكتاب الإلهي ، أو الكتابة التي تخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور العلم والحضارة ، ويجوز الجمع بين المعنيين على القول الصحيح باستعمال المشترك في معنييه أو فيما يقتضيه المقام من معانيه ، وأما الحكمة : فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها ، الباعث على العمل ، وفسرها بعضهم بالسنة .
( أقول ) : وهو غلط فإنها أطلقت على بعض نصوص الكتاب كالعقائد والفضائل والأحكام الإيجابية والسلبية بدليل قوله تعالى بعد الوصايا المقرونة بعلل الأمر والنهي من سورة الإسراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=39ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ) ( 17 : 39 ) وفي سورة لقمان أن الله آتاه الحكمة وذكر منها وصاياه لابنه المعللة بأسباب النهي ( راجع 31 : 12 - 19 الآيات ) فحكمة القرآن أعلى الحكم ، وتليها حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918647لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) ) رواه الشيخان من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، وفي بعض رواياته : ( ( فهو يعمل بها ويعلمها الناس ) ) وفي لفظ من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ( ( القرآن ) ) بدل ( ( الحكمة ) ) .
وقد تقدم ما قاله الأستاذ الإمام في هذه الكلمات في دعاء
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وجاء هنا بتفصيل في معنى الحكمة لم يذكر هناك ، فقال ما مثاله : دعا القرآن إلى التوحيد وأمهات الفضائل وبين أصول الأحكام ، ولكنه لم يفصل سيرة الملوك والرؤساء مع السوقة والمرءوسين ، ولم يفصل سيرة الرجل مع أهل بيته في الجزئيات وهو ما يسمونه نظام البيوت - العائلات - ولم يفصل طرق الأحكام القضائية والمدنية والحربية ، وذلك أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ
[ ص: 25 ] بالأسوة والعمل بعد معرفة القواعد العامة التي جاءت في الكتاب ، ولذلك كانت السنة هي المبينة لذلك بالتفصيل بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوته ومع أصحابه في السلم والحرب والسفر والإقامة ، وفي حال الضعف والقوة والقلة والكثرة ;
nindex.php?page=treesubj&link=27862فالسنة العملية المتواترة هي المبينة للقرآن بتفصيل مجمله وبيان مبهمه ، وإظهار ما في أحكامه من الأسرار والمنافع ; ولهذا أطلق عليها لفظ الحكمة فإنها كانت كالحكمة - بالتحريك - لتأديب الفرس ، ولولا هذه التربية بالعمل لما كان الإرشاد القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء والجهل والأمية إلى الائتلاف والاتحاد والتآخي والعلم وسياسة الأمم ، فالسنة هي التي علمتهم كيف يهتدون بالقرآن ، ومرنتهم على العدل والاعتدال في جميع الأحوال .
كلنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة ، وقلما ترى أحدا عاملا بعلمه ، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم يرون حكمته ، ودون الأسوة الحسنة في العمل به ، فهم لا يفقهون لم كان هذا حراما ؟ ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسره ، فتعلم علما تفصيليا ما وراء المحرم من الضرر لمرتكبه وللناس ، وما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامة والخاصة . ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه وملاحظة آثاره والاقتداء بالمعلمين والمربين في العمل به - كما أخذ الصحابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلي والتفصيل ، حتى تكون الجزئيات مشرقة واضحة ، ولكان هذا العلم معينا لهم على إحلال الحلال بالعمل ، وتحريم الحرام بالترك ، فقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ( رضي الله عنهم ) على فقه الدين ونفذ بهم إلى سره ، فكانوا حكماء علماء ، عدولا نجباء ، حتى أن كان أحدهم ليحكم المملكة العظيمة فيقيم فيها العدل ويحسن السياسة وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه ، ولكنه فقهه حق فقهه . وهذا المعنى - فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام - غير التزكية ، بيد أنه يتصل بها ويعين عليها ، حتى يطابق العلم العمل ، فهذه الآية نبأ عن استجابة دعوة
إبراهيم عليه السلام (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) ( 2 : 129 ) الآية .
وقد تقدم هناك ذكر تعليم الكتاب والحكمة على التزكية ، وقدم هنا ذكر التزكية على تعليم الكتاب والحكمة ، والنكتة في ذلك أن
إبراهيم عليه السلام لاحظ في دعوته الطريق الطبيعي وهو أن التعليم يكون أولا ثم تكون التزكية ثمرة له ونتيجة ، وهاهنا ذكر الترتيب بحسب الوجود والوقوع ، وذلك أن أول شيء فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن دعا الناس إلى الإيمان بما تلا عليهم من آيات الله تعالى ودلائل توحيده ، وإلى الاعتقاد بإعادة الناس ليوم لا ريب فيه يحاسب الله فيه كل نفس ويجزيها بعملها وصفاتها ، فأجاب الناس دعوته بالتدريج ، وكل من آمن له كان يقتدي به في أخلاقه وأعماله ، ولم تكن هنالك أحكام ولا شرائع ، ثم شرعت الأحكام بالتدريج ، فالتزكية بالتأسي به - عليه الصلاة والسلام - كانت متأخرة عن إقامة الآيات والدلائل على أصول الإيمان ، ومقدمة على تلقي الشرائع والتفقه في الأحكام .
[ ص: 26 ] ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) أي : ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما لم يسبق لكم به علم من شئون العالم ونظام البيوت والمعاشرة الزوجية وسياسة الحروب والأمم . وقال
البيضاوي وغيره : ما لم تكونوا تعلمونه بالنظر والفكر ، إذ لا سبيل لمعرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر اهـ . يعني : كأخبار عالم الغيب وسيرة الأنبياء ، وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم ، وكثير منها كان مجهولا عند
أهل الكتاب أيضا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - صحح أغلاطهم ، وبين سقاطهم ، وخص هذا بالذكر - وإن كان مما اشتمل عليه الكتاب - اهتماما به وتنويها بشأنه ، ولكن تكرار الفعل وعطفه يقتضي أن يكون هذا غير ما قبله .
قال الأستاذ الإمام : ويصح أن يراد ما لم تكونوا تعلمون من شئون أنفسكم ، والسنن الإلهية الحاكمة فيكم ، وقد بلغوا بتعليمه وإرشاده - صلى الله عليه وسلم - مبلغا فاقوا فيه سائر الأمم ; أي : فالتعليم ليس محصورا في الكتاب بل هناك زيادة أعد الله تعالى نبيه لتبيينها ، والمقابلة بين هذا التعليم وتعليم الكتاب مبنية على أن المراد بالكتاب : القرآن ، وبالآيات : الدلائل ، وقد تقدم فيه وجه آخر وهو أنه مصدر كتب أي : ويعلمكم الكتابة بعد أن كنتم أميين .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ) أَيْ : يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بِاسْتِيلَائِكُمْ عَلَى بَيْتِهِ الَّذِي
[ ص: 23 ] جَعَلَهُ قِبْلَةً لَكُمْ ، وَتَطْهِيرِكُمْ إِيَّاهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ، وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي فِي قَلْبِ بِلَادِكُمْ ، وَمَوْضِعُ شَرَفِكُمْ وَفَخْرِكُمْ ، كَمَا أَتَمَّهَا عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِهِ رَسُولًا مِنْكُمْ ، فَالْقِبْلَةُ فِي بِلَادِكُمْ ، وَالرَّسُولُ مِنْ أُمَّتِكُمْ ، وَالْخِطَابُ لِلْعَرَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ . ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الرَّسُولَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَ بِهَا نِعْمَةً تَامَّةً ، وَرَحْمَةً شَامِلَةً فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فِي دَعْوَةِ
إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّ الْآيَاتِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَأَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ الْوَحْيِ ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةٍ ( يَتْلُو ) عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ أَعَمُّ ، فَكُلُّ بُرْهَانٍ يُقِيمُهُ فَقَدْ تَلَا عَلَيْهِمْ عِبَارَتَهُ ، وَذَكَرَ لَهُمْ فِيهِ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، وَوَجْهُ الْمِنَّةِ أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا إِذْعَانٍ ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى يَكُونُ بِهَا الْعَقْلُ مُسْتَقِلًّا ، وَالدِّينُ مُؤَيِّدًا لَهُ وَهَادِيًا ، لَا مُرْغِمًا وَلَا مُعَطِّلًا ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ ، فَهِيَ فِي نَفْسِهَا آيَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِأَنْوَاعِ إِعْجَازِهَا الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا ( ص 159 - 191 ج1 ) وَتَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا .
الْآيَاتُ تَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ ، وَيَلِيهَا تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ : ( وَيُزَكِّيكُمْ ) أَيْ : يُطَهِّرُ نُفُوسَكُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ ، وَالرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَةِ ، وَيُخَلِّقُهَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ بِمَا لَكُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُسْوَةِ لَا بِالْقَهْرِ وَالسَّطْوَةِ ، وَخَصَّ الْمُفَسِّرُ (
الْجَلَالُ ) التَّزْكِيَةَ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الشِّرْكِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28640الْإِسْلَامَ كَمَا جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَاحِي لِلشِّرْكِ ، جَاءَ بِالتَّهْذِيبِ الْمُطَهِّرِ مِنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ وَقَبَائِحِ الْعَادَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْعَرَبِ ، فَقَدْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهُمْ - يَدْفِنُونَهُنَّ حَيَّاتٍ - وَيَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْقَسْوَةِ وَالشُّحِّ ، وَكَانُوا يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَهْوَنِ سَبَبٍ يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمُ الْجَاهِلِيَّةَ ; لِمَا اعْتَادُوهُ مِنَ الْبَغْيِ فِي الثَّارَاتِ وَمِنْ شَنِّ الْغَارَاتِ وَنَهْبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّسَفُّلِ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَتَزَوَّجُ زَوْجَ أَبِيهِ أَوْ يَعْضِلُهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ زَكَّاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِاقْتِدَائِهِمْ بِأَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ فِي عِبَادَاتِهِ الْكَامِلَةِ وَآدَابِهِ الْعَالِيَةِ ، وَجَمْعِهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْفُرْقَةِ ، وَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى صَارُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَجَعَلَتْ شَرِيعَتُهُ ذِمَّتَهُمْ وَاحِدَةً يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَإِذَا أَعْطَى مَوْلًى أَوْ رَقِيقٌ لَهُمْ أَمَانًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ مُحَارِبٍ كَانَ ذَلِكَ كَتَأْمِينِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ ، فَأَيُّ تَزْكِيَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ ؟ .
[ ص: 24 ] وَأَقُولُ : إِنَّهُمْ بِزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ هَذِهِ فَتَحُوا الْعَالَمَ وَكَانُوا أَئِمَّةَ أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَقِرُ جِنْسَهُمْ كُلَّهُ ، فَإِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنَّمَا عَرَفُوا فَضْلَ الْإِسْلَامِ بِعَدْلِهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي فُتُوحِهِمْ ، وَمَا فَهِمُوا الْقُرْآنَ إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَتَعَلُّمِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ . وَالرَّسُولُ الَّذِي زَكَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي زَكَّتْ أُمَمًا كَثِيرَةً حَقِيقٌ بِأَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ أَزْكَى الْأَنْفُسِ وَأَكْمَلَهَا ، وَلَكِنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28753_29638بَعْضَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَسْتَدِلُّ بِآيَةِ ( nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=19لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) ( 19 : 19 ) عَلَى تَفْضِيلِ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَوَصْفُ الْغُلَامِ بِالزَّكِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْغِلْمَانِ ، فَضْلًا عَمَّنْ زَكَى الْأَنَامَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْعَبْدِ الَّذِي عَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) ( 18 : 74 ) الْآيَةَ ، فَهَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ أَفْضَلُ مِنْ
مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوصَفَا بِوَصْفِهِ ؟
وَبَعْدَ ذِكْرِ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ أَمْرَ التَّعْلِيمِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) أَيِ : الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ ، أَوِ الْكِتَابَةَ الَّتِي تَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَعَانِيهِ ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ : فَهِيَ الْعِلْمُ الْمُقْتَرِنُ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَمَنَافِعِهَا ، الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ .
( أَقُولُ ) : وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهَا أُطْلِقَتْ عَلَى بَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ كَالْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْوَصَايَا الْمَقْرُونَةِ بِعِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=39ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) ( 17 : 39 ) وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مِنْهَا وَصَايَاهُ لِابْنِهِ الْمُعَلِّلَةَ بِأَسْبَابِ النَّهْيِ ( رَاجِعْ 31 : 12 - 19 الْآيَاتِ ) فَحِكْمَةُ الْقُرْآنِ أَعْلَى الْحِكَمِ ، وَتَلِيهَا حِكْمَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918647لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ) ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ : ( ( فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ ) ) وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ( ( الْقُرْآنَ ) ) بَدَلَ ( ( الْحِكْمَةَ ) ) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي دُعَاءِ
إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ هُنَا بِتَفْصِيلٍ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَاكَ ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ : دَعَا الْقُرْآنُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَبَيَّنَ أُصُولَ الْأَحْكَامِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مَعَ السُّوقَةِ وَالْمَرْءُوسِينَ ، وَلَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ نِظَامَ الْبُيُوتِ - الْعَائِلَاتِ - وَلَمْ يُفَصِّلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ
[ ص: 25 ] بِالْأُسْوَةِ وَالْعَمَلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّنَّةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بُيُوتِهِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ;
nindex.php?page=treesubj&link=27862فَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلْقُرْآنِ بِتَفْصِيلِ مُجْمَلِهِ وَبَيَانِ مُبْهَمِهِ ، وَإِظْهَارِ مَا فِي أَحْكَامِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْمَنَافِعِ ; وَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ كَالْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - لِتَأْدِيبِ الْفَرَسِ ، وَلَوْلَا هَذِهِ التَّرْبِيَةُ بِالْعَمَلِ لَمَا كَانَ الْإِرْشَادُ الْقَوْلِيُّ كَافِيًا فِي انْتِقَالِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ طَوْرِ الشَّتَاتِ وَالْفُرْقَةِ وَالْعَدَاءِ وَالْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ إِلَى الِائْتِلَافِ وَالِاتِّحَادِ وَالتَّآخِي وَالْعِلْمِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ ، وَمَرَّنَتْهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ .
كُلُّنَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْفَضِيلَةَ وَالرَّذِيلَةَ ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ يَعْرِفُونَ الْحُكْمَ يَرَوْنَ حِكْمَتَهُ ، وَدُونَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ ، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لِمَ كَانَ هَذَا حَرَامًا ؟ وَلَا تَنْفُذُ أَفْهَامُهُمْ فِي أَعْمَاقِ الْحُكْمِ فَتَصِلُ إِلَى فِقْهِهِ وَسِرِّهِ ، فَتَعْلَمُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمِ مِنَ الضَّرَرِ لِمُرْتَكِبِهِ وَلِلنَّاسِ ، وَمَا وَرَاءَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ . وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَفَقِهُوهُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَيْهِ وَمُلَاحَظَةِ آثَارِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرَبِّينَ فِي الْعَمَلِ بِهِ - كَمَا أَخَذَ الصَّحَابَةُ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمَةِ الْإِجْمَالِ وَالْإِبْهَامِ فِي الْمَعْرِفَةِ إِلَى نُورِ التَّجَلِّي وَالتَّفْصِيلِ ، حَتَّى تَكُونَ الْجُزْئِيَّاتُ مُشْرِقَةً وَاضِحَةً ، وَلَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى إِحْلَالِ الْحَلَالِ بِالْعَمَلِ ، وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ بِالتَّرْكِ ، فَقَدْ وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) عَلَى فِقْهِ الدِّينِ وَنَفَذَ بِهِمْ إِلَى سِرِّهِ ، فَكَانُوا حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ ، عُدُولًا نُجَبَاءَ ، حَتَّى أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَحْكُمُ الْمَمْلَكَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُقِيمُ فِيهَا الْعَدْلَ وَيُحْسِنُ السِّيَاسَةَ وَهُوَ لَمْ يَحْفَظْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْضَهُ ، وَلَكِنَّهُ فَقِهَهُ حَقَّ فِقْهِهِ . وَهَذَا الْمَعْنَى - فِقْهُ الدِّينِ وَمَعْرِفَةُ أَسْرَارِ الْأَحْكَامِ - غَيْرُ التَّزْكِيَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهَا وَيُعِينُ عَلَيْهَا ، حَتَّى يُطَابِقَ الْعِلْمُ الْعَمَلَ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَبَأٌ عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) ( 2 : 129 ) الْآيَةَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ ذِكْرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى التَّزْكِيَةِ ، وَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ التَّزْكِيَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَاحَظَ فِي دَعْوَتِهِ الطَّرِيقَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيمَ يَكُونُ أَوَّلًا ثُمَّ تَكُونُ التَّزْكِيَةُ ثَمَرَةً لَهُ وَنَتِيجَةً ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ التَّرْتِيبَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ وَالْوُقُوعِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا تَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ ، وَإِلَى الِاعْتِقَادِ بِإِعَادَةِ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ يُحَاسِبُ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ نَفْسٍ وَيَجْزِيهَا بِعَمَلِهَا وَصِفَاتِهَا ، فَأَجَابَ النَّاسُ دَعَوْتَهُ بِالتَّدْرِيجِ ، وَكُلُّ مَنْ آمَنَ لَهُ كَانَ يَقْتَدِي بِهِ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ أَحْكَامٌ وَلَا شَرَائِعُ ، ثُمَّ شُرِعَتِ الْأَحْكَامُ بِالتَّدْرِيجِ ، فَالتَّزْكِيَةُ بِالتَّأَسِّي بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ إِقَامَةِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ ، وَمُقَدَّمَةً عَلَى تَلَقِّي الشَّرَائِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْأَحْكَامِ .
[ ص: 26 ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) أَيْ : وَيُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ الْبُيُوتِ وَالْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسِيَاسَةِ الْحُرُوبِ وَالْأُمَمِ . وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ : مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ ، إِذْ لَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ سِوَى الْوَحْيِ ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ اهـ . يَعْنِي : كَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَسِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَكُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ
أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّحَ أَغْلَاطَهُمْ ، وَبَيَّنَ سَقَاطَهُمْ ، وَخَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ - وَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ - اهْتِمَامًا بِهِ وَتَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ ، وَلَكِنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَعَطْفَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ مَا قَبْلَهُ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ أَنْفُسِكُمْ ، وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمَةِ فِيكُمْ ، وَقَدْ بَلَغُوا بِتَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْلَغًا فَاقُوا فِيهِ سَائِرَ الْأُمَمِ ; أَيْ : فَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْكِتَابِ بَلْ هُنَاكَ زِيَادَةٌ أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لِتَبْيِينِهَا ، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ هَذَا التَّعْلِيمِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ : الْقُرْآنُ ، وَبِالْآيَاتِ : الدَّلَائِلُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَصْدَرُ كَتَبَ أَيْ : وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَةَ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أُمِّيِّينَ .