(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) .
علم مما تقدم أن مسألة تحويل القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين
وأهل الكتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان التحويل شبهة من شبهاتهم ، وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى
البيت الحرام توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه - كما يوجهون إليه وجوههم - لأجل تطهيره من الشرك والآثام ، كما عهد الله إلى أبويهم
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام ، وإن في
طي (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ولأتم نعمتي عليكم ) ( 2 : 150 ) بشارة بهذا الاستيلاء ، مفيدة للأمل والرجاء ، وقد علم الله المؤمنين بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة ، وأشعرهم بما يلاقون
[ ص: 35 ] في سبيل الحق من المصائب والشدائد ، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك البشارة ويقوي ذلك الأمل ، فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين
الصفا والمروة ، فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون
مكة ويقيمون مناسك
إبراهيم فيها ، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية ، وهو قوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158nindex.php?page=treesubj&link=28973_3585إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم ; بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط ، من حيث هي تأكيد للبشارة ، ومن حيث إن الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها
إبراهيم الذي أحيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته ; كأنه قال : لا تلوينكم قوة المشركين في
مكة ، وكثرة الأصنام على
الكعبة والصفا والمروة عن القصد إلى تطهير
البيت الحرام ، وإحياء تلك الشعائر العظام ، كما لا يلوينكم عن استقبال
البيت تقول
أهل الكتاب والمشركين ، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين ، بل ثقوا بوعد الله واستعينوا بالصبر والصلاة .
الصفا والمروة : جبلان ، أو علما جبلين
بمكة والمسافة بينهما 760 ذراعا ونصف ،
والصفا تجاه
البيت الحرام ، وقد علتهما المباني وصار ما بينهما سوقا . والشعيرة والشعار والشعارة تطلق على المكان أو الشيء الذي يشعر بأمر له شأن ، وأطلق على معالم الحج ومواضع النسك وتسمى مشاعر ( ( جمع مشعر ) ) وعلى العمل الاجتماعي المخصوص الذي هو عبادة ونسك ، ففي آية أخرى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2لا تحلوا شعائر الله ) ( 5 : 2 ) وهي مناسك الحج ومعالمه ، ومنه إشعار الهدي وهو جرح ما يهدى إلى
الحرم من الإبل في صفحة سنامه ليعلم أنه نسك ، ويشعر البقر أيضا دون الغنم ، ومن شواهده في اللغة شعار الحرب وهو ما يتعارف به الجيش . قال شيخنا : ورمى رجل جمرة فأصابت جبهة
عمر رضي الله عنه فقال رجل : شعرت جبهة أمير المؤمنين ، يريد جرحت ، سمي الجرح بذلك ; لأنه علامة ، وقال عند ذلك رجل لهبي : سيقتل أمير المؤمنين ، وكان ما قال .
فأما كون المواضع
كالصفا والمروة من علامات دين الله أو أعلام دينه فظاهر ، وأما كون المناسك والأعمال شعائر وعلامات فوجهه أن القيام بها علامة على الخضوع لله تعالى وعبادته إيمانا وتسليما . فالشعائر إذن لا تطلق إلا على الأعمال المشروعة التي فيها تعبد لله تعالى ; ولذلك غلب استعمال الشعائر في أعمال الحج لأنها تعبدية . قال في الصحاح : الشعائر أعمال
[ ص: 36 ] الحج ، وكل ما جعل علما لطاعة الله عز وجل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2لا تحلوا شعائر الله ) أي جميع متعبداته التي أشعرها الله ; أي : جعلها إعلاما لنا إلخ ، فهو يريد أن الشعائر من أشعره بالشيء : أعلمه به . وقد صرح بذلك ولكنه لا يدل بهذا على معنى التعبد ; إذ قد أعلمنا الله تعالى بالأحكام التي لا تعبد فيها أيضا ، والشعائر لم تطلق في القرآن إلا على مناسك الحج الاجتماعية ، وألحق بها بعضهم ما في معناها من عبادات الإسلام الاجتماعية كالأذان وصلاة الجمعة والعيدين .
( الأستاذ الإمام ) في الأحكام التي شرعها الله تعالى نوع يسمى بالشعائر ، ومنها ما لا يسمى بذلك كأحكام المعاملات كافة ; لأنها شرعت لمصالح البشر فلها علل وأسباب يسهل على كل إنسان أن يفهمها فهذا أحد أقسام الشرائع ، والقسم الثاني : هو ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص ، وكالتوجه فيها إلى مكان مخصوص سماه الله بيته مع أنه من خلقه كسائر العالم . فهذا شيء شرعه الله وتعبدنا به لعلمه بأن فيه مصلحة لنا ولكننا نحن لا نفهم سر ذلك تمام الفهم من كل وجه .
أقول : وهذا النوع يوقف فيه عند نص ما شرعه الله تعالى ، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يقاس عليه ، ولا يؤخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده ، إذ
nindex.php?page=treesubj&link=20366لو أبيح للناس الزيادة في شعائر الدين باجتهادهم في عموم لفظ أو قياس لأمكن أن تصير شعائر الإسلام أضعاف ما كانت عليه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يفرق أكثر الناس بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع ، فيكون المسلمون
كالنصارى ، فكل من ابتدع شعيرة أو عبادة في الإسلام فهو ممن يصدق عليهم قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=21أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ( 42 : 21 ) وإنما الاجتهاد في مثل تحري القبلة من العمل التعبدي ، وفي القضاء ، وليراجع القارئ تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) ومن العبث أن يعمل الإنسان ما لا يعرف له فائدة لقول من هو مثله وهو مستعد لأن يفهم كل ما يفهمه ! ولا يأتي هذا العبث في امتثال أمر الله تعالى لأنا نعتقد أنه برحمته وحكمته لا يشرع لنا إلا ما فيه خيرنا ومصلحتنا ، وأنه بعلمه المحيط بكل شيء يعلم من ذلك ما لا نعلم ، والتجربة تؤيد هذا الاعتقاد فإن الطائعين القائمين بحقوق الدين تصلح أحوالهم في الدنيا ، ويرجى لهم في الآخرة ما يرجى ، وإن لم يفهموا فهما كاملا فائدة كل جزئية من جزئيات العمل ، فمثلهم كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي مثل من وثق بالطبيب وجرب دواءه فوجده نافعا ولكنه لا يعرف أية فائدة لكل جزء من أجزائه ونسبته إلى الأجزاء الأخرى ، وحسبه أن يعلم أن هذا الدواء المركب نافع يشفي بإذن الله من المرض .
[ ص: 37 ] السعي بين
الصفا والمروة من هذا النوع التعبدي ، فهو مطلوب بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما )
nindex.php?page=treesubj&link=3272حج البيت : قصده للنسك والإتيان بالمناسك المعروفة هنالك ، وسيأتي تفصيلها في هذا الجزء . والاعتمار :
nindex.php?page=treesubj&link=3959مناسك العمرة وهي دون مناسك الحج ، فليس في العمرة وقوف
بعرفة ولا مبيت
بمزدلفة ولا رمي جمار في
منى . والجناح بالضم : الميل إلى الإثم ، كجنوح السفينة إلى وحل ترتطم فيه ، والإثم نفسه وأصله من جناح الطائر . ويطوف بتشديد الواو من التطوف وهو تكرار الطواف أو تكلفه .
والمعنى فليس عليه شيء من جنس الجناح - وهو الميل والانحراف عن جادة النسك - في التطوف بهما ، وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=3523التطوف هو الذي عرف في الاصطلاح بالسعي بين
الصفا والمروة وفسرته السنة بالعمل ، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر ، وإذا كان مشروعا فسواء كان ركنا كما يقول
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهما ، أو واجبا كما يقول الحنفية ، أو مندوبا كما روي عن
أحمد .
وقالوا في حكمة التعبير عنه بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح : إنه للإشارة إلى تخطئة المشركين الذين كانوا ينكرون كون
الصفا والمروة من الشعائر ، وأن السعي بينهما من مناسك
إبراهيم ، فهو لا ينافي الطلب جزما . وكذلك قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158ومن تطوع خيرا ) في هذا التطوف وغيره أو كرر الحج أو العمرة فزاد على الفريضة ; أي : تحمله طوعا - كما قال
الراغب - فإن التطوع في اللغة : الإتيان بما في الطوع أو بالطاعة أو تكلفها أو الإكثار منها ، وأطلق على التبرع بالخير ; لأنه طوع لا كره ولا إكراه فيه ، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي : ( ( إلا أن تطوع ) ) أي تزيد على الفريضة (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فإن الله شاكر عليم ) أي : فإن الله يثيبه ; لأنه شاكر يجزي على الإحسان ، عليم بمن يستحق الجزاء .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=33029للسعي بين الصفا والمروة أصلا من ذكرى نشأة الدين الأولى بمكة في عهد إبراهيم وإسماعيل كغيره من شعائر الله ؟ وخلاصته أنه لما كان بين
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وامرأته (
سارة ) ما كان ( من حملها إياه على طرد سريته
هاجر مع طفلها
إسماعيل وهو مذكور في الفصل 21 من سفر التكوين ) خرج بهما إلى برية
فاران ( أي مكة ) فوضعهما في
مكان زمزم تحت دوحة ولم يكن هنالك سكان ولا ماء ، ووضع عندها جرابا فيه تمر - وفي سفر التكوين أنه زودها بخبز - وسقاء فيه ماء ثم رجع فقالت له : إلى من تتركنا ؟ قال : ( ( إلى الله ) ) قالت : رضيت بالله . وهنالك دعا
إبراهيم بما حكاه الله عنه في سورته : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=37ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) إلى قوله -
[ ص: 38 ] ( يشكرون ) ( 14 : 37 ) فلما نفد الماء عطشت وجف لبنها وعطش ولدها فجعل يتلوى وينشغ ( يشهق للموت ) فكانت تذهب فتصعد
الصفا تنظر هل ترى أحدا فلم تحس أحدا ، ثم تذهب فتصعد
المروة فلم تر أحدا ، ثم ترجع إلى ولدها فتراه ينشغ ، فعلت ذلك سبعة أشواط ، وبعد الأخير وجدت عنده صوتا فقالت : أغث إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك
جبريل عند
زمزم فغمز بعقبه الأرض فانبثق الماء فجعلت تشرب ويدر لبنها على صبيها ، ومر ناس من جرهم بالوادي فإذا هم بطير عائفة - أي تخوم على الماء - فاهتدوا إليه وأقاموا عنده ونشأ
إسماعيل معهم .
nindex.php?page=hadith&LINKID=918651قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لما ذكر سعيها بين الصفا والمروة : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( فذلك سعي الناس بينهما ) ) .
( الأستاذ الإمام )
nindex.php?page=treesubj&link=29443وصف الباري تعالى بالشاكر لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز ، فالشكر في اللغة : مقابلة النعمة والإحسان بالثناء والعرفان ،
nindex.php?page=treesubj&link=19606وشكر الناس لله في اصطلاح الشرع : عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لأجله ، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى .
فالمعنى إذن أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين ، وأنه لا يضيع أجر العاملين ، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا ، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا . وأزيد على قول الأستاذ : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19607_19614الله تعالى وعد الشاكرين لنعمه بالمزيد منها ، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة .
والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب ، فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن علمهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا ، فيكون إنعاما عليه ويدا عنده ، وإنما منفعته لهم ، فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم إليه وأقدرهم عليه ، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى وهو لا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لأجله ؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي إليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه ، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة ؟ فكيف وقد سمى الله - تعالى جده وجل ثناؤه - إنعامه على من يحسنون إلى أنفسهم وإلى الناس شكرا ، والله الخالق وهم المخلوقون ، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون ؟ .
nindex.php?page=treesubj&link=19614_19607شكر النعمة والمكافأة على المعروف من أركان العمران ، وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة ; إذ هي مدعاة ترك المعروف كما أن الشكر مدعاة المزيد ; ولذلك أوجب الله تعالى علينا شكره ، وجعل في ذلك مصلحتنا ومنفعتنا ; لأن كفران نعمه بإهمالها
[ ص: 39 ] أو بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله أو بعدم ملاحظة أنها من فضله وكرمه تعالى ، كل ذلك من أسباب الشقاء والبلاء . وأما تركنا شكر الناس وتقدير أعمالهم قدرها سواء كان عملهم النافع موجها إلينا أو إلى غيرنا من الخلق ، فهو جناية منا على الناس وعلى أنفسنا ; لأن صانع المعروف إذا لم يلق إلا الكفران فإن الناس يتركون عمل المعروف في الغالب ، فنحرم منه ونقع مع الأكثرين في ضده فنكون من الخاسرين ، وإنما قلنا ( ( في الغالب ) ) لأن في الناس من يصنع المعروف ويسعى في الخير رغبة في الخير والمعروف وطلبا للكمال ، ولكن أصحاب هذه النفوس الكبيرة والأخلاق العالية التي لا ينظر ذووها إلى مقابلة الناس لأعمالهم بالشكر ، ولا يصدهم عن الصنيعة جهل الناس بقيمة صنيعتهم ، قلما تلد القرون واحدا منهم ، ثم إن كفران النعم لا بد أن يؤثر في نفس من عساه يوجد منهم فإن لم يكن أثره ترك السعي والعمل ، كان الفتور والوني فيه ، وإذا لم يدع المعروف فاعله لكفران الناس لسعيه تركه لليأس من فائدته ، أو للحذر من سوء مغبته ; إذ الحاسدون من الأشرار يسعون دائما في إيذاء الأخيار ، كذلك الشكر يؤثر في إنهاض همة أعلياء الهمة من المخلصين في أعمالهم الذين لا يريدون عليها جزاء ولا شكورا ; ذلك أنهم يرون عملهم الخير نافعا فيزيدون منه ، كما أنهم إذا رأوه ضائعا يكفون عنه . ( قال الأستاذ الإمام ) بعد بيان حسن أثر الشكر في المخلصين : ويروون في هذا حديثا ارتقى به بعضهم إلى درجة الحسن وهو ( (
عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه ) ) أي كان إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في الخير المطلق يسر ويسمن ، هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - أخلص المخلصين الفاني في الله تعالى لا يبتغي بعمله غير مرضاته ، فكيف لا يكون غيره أجدر بذلك ممن إذا سلم من الانبعاث إلى الخير بباعث الشكر والثناء فلا يكاد يسلم من حب الثناء لذاته فضلا عن مقت الكفران والكنود
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) .
عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ الْكَلَامِ عَنْ مُعَانَدَةِ الْمُشْرِكِينَ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ التَّحْوِيلُ شُبْهَةً مِنْ شُبُهَاتِهِمْ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ حِكَمِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى
الْبَيْتِ الْحَرَامِ تَوْجِيهُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ - كَمَا يُوَجِّهُونَ إِلَيْهِ وُجُوهَهُمْ - لِأَجْلِ تَطْهِيرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْآثَامِ ، كَمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَى أَبَوَيْهِمْ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَإِلَّا كَانُوا رَاضِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْأَصْنَامِ ، وَإِنَّ فِي
طَيِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) ( 2 : 150 ) بِشَارَةٌ بِهَذَا الِاسْتِيلَاءِ ، مُفِيدَةٌ لِلْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ ، وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا هِيَ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ مِنَ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ، وَأَشْعَرَهُمْ بِمَا يُلَاقُونَ
[ ص: 35 ] فِي سَبِيلِ الْحَقِّ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ وَيُقَوِّي ذَلِكَ الْأَمَلَ ، فَذَكَرَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ هِيَ السَّعْيُ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَكَانَ ذِكْرُهَا تَصْرِيحًا ضِمْنِيًّا بِأَنْ سَيَأْخُذُونَ
مَكَّةَ وَيُقِيمُونَ مَنَاسِكَ
إِبْرَاهِيمَ فِيهَا ، وَتَتِمُّ بِذَلِكَ لَهُمُ النِّعْمَةُ وَالْهِدَايَةُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158nindex.php?page=treesubj&link=28973_3585إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) فَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ السِّيَاقِ السَّابِقِ لِإِفَادَةِ حُكْمٍ جَدِيدٍ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا تُوُهِّمَ ; بَلْ هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَوْضُوعِ وَمُرْتَبِطَةٌ بِهِ أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ ، مِنْ حَيْثُ هِيَ تَأْكِيدٌ لِلْبِشَارَةِ ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا
إِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَحْيَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلَّتَهُ وَجُعِلَتِ الصَّلَاةُ إِلَى قِبْلَتِهِ ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَا تَلْوِيَنَّكُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي
مَكَّةَ ، وَكَثْرَةُ الْأَصْنَامِ عَلَى
الْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى تَطْهِيرِ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَإِحْيَاءِ تِلْكَ الشَّعَائِرِ الْعِظَامِ ، كَمَا لَا يَلْوِيَنَّكُمْ عَنِ اسْتِقْبَالِ
الْبَيْتِ تَقَوُّلُ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَلَا زِلْزَالُ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ، بَلْ ثِقُوا بِوَعْدِ اللَّهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ .
الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ : جَبَلَانِ ، أَوْ عَلَمَا جَبَلَيْنِ
بِمَكَّةَ وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا 760 ذِرَاعًا وَنِصْفُ ،
وَالصَّفَا تُجَاهَ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَقَدْ عَلَتْهُمَا الْمَبَانِي وَصَارَ مَا بَيْنَهُمَا سُوقًا . وَالشُّعَيْرَةُ وَالشِّعَارُ وَالشِّعَارَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ أَوِ الشَّيْءِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ ، وَأُطْلِقَ عَلَى مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ وَتُسَمَّى مَشَاعِرُ ( ( جَمْعُ مَشْعَرٍ ) ) وَعَلَى الْعَمَلِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْمَخْصُوصِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَنُسُكٌ ، فَفِي آيَةٍ أُخْرَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ( 5 : 2 ) وَهِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْهَدْيِ وَهُوَ جَرْحُ مَا يُهْدَى إِلَى
الْحَرَمِ مِنَ الْإِبِلِ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ نُسُكٌ ، وَيُشْعَرُ الْبَقَرُ أَيْضًا دُونَ الْغَنَمِ ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي اللُّغَةِ شِعَارُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَتَعَارَفُ بِهِ الْجَيْشُ . قَالَ شَيْخُنَا : وَرَمَى رَجُلٌ جَمْرَةً فَأَصَابَتْ جَبْهَةَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ : شَعَرْتَ جَبْهَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، يُرِيدُ جَرَحْتَ ، سُمِّيَ الْجُرْحُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ لِهْبِيٌّ : سَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَكَانَ مَا قَالَ .
فَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ
كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ دِينِ اللَّهِ أَوْ أَعْلَامِ دِينِهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْمَالِ شَعَائِرَ وَعَلَامَاتٍ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِهَا عَلَامَةٌ عَلَى الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا . فَالشَّعَائِرُ إِذَنْ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعَبُّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى ; وَلِذَلِكَ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّعَائِرِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ . قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ
[ ص: 36 ] الْحَجِّ ، وَكُلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) أَيْ جَمِيعَ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي أَشْعَرَهَا اللَّهُ ; أَيْ : جَعَلَهَا إِعْلَامًا لَنَا إِلَخْ ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ الشَّعَائِرَ مِنْ أَشْعَرَهُ بِالشَّيْءِ : أَعْلَمَهُ بِهِ . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ بِهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّعَبُّدِ ; إِذْ قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَبُّدَ فِيهَا أَيْضًا ، وَالشَّعَائِرُ لَمْ تُطْلَقْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ، وَأَلْحَقَ بِهَا بَعْضُهُمْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
( الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى نَوْعٌ يُسَمَّى بِالشَّعَائِرِ ، وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ كَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ كَافَّةً ; لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ فَلَهَا عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَفْهَمَهَا فَهَذَا أَحَدُ أَقْسَامِ الشَّرَائِعِ ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي : هُوَ مَا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ، وَكَالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ سَمَّاهُ اللَّهُ بَيْتَهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَسَائِرِ الْعَالَمِ . فَهَذَا شَيْءٌ شَرَعَهُ اللَّهُ وَتَعَبَّدَنَا بِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَنَا وَلَكِنَّنَا نَحْنُ لَا نَفْهَمُ سِرَّ ذَلِكَ تَمَامَ الْفَهْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
أَقُولُ : وَهَذَا النَّوْعُ يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ نَصِّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِرَأْيِ أَحَدٍ وَلَا بِاجْتِهَادِهِ ، إِذْ
nindex.php?page=treesubj&link=20366لَوْ أُبِيحَ لِلنَّاسِ الزِّيَادَةُ فِي شَعَائِرِ الدِّينِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي عُمُومِ لَفْظٍ أَوْ قِيَاسٍ لَأَمْكَنَ أَنْ تَصِيرَ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَا يُفَرِّقَ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ الْأَصْلِ الْمُشْتَرَعِ وَالدَّخِيلِ الْمُبْتَدَعِ ، فَيَكُونُ الْمُسْلِمُونَ
كَالنَّصَارَى ، فَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ شَعَيْرَةً أَوْ عِبَادَةً فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِمَّنْ يَصَدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=21أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) ( 42 : 21 ) وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي مِثْلِ تَحَرِّي الْقِبْلَةِ مِنَ الْعَمَلِ التَّعَبُّدِيِّ ، وَفِي الْقَضَاءِ ، وَلِيُرَاجِعِ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ( 5 : 101 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ( 9 : 31 ) وَمِنَ الْعَبَثِ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَعْرِفُ لَهُ فَائِدَةً لِقَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يَفْهَمَ كُلَّ مَا يَفْهَمُهُ ! وَلَا يَأْتِي هَذَا الْعَبَثُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يَشْرَعُ لَنَا إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُنَا وَمَصْلَحَتُنَا ، وَأَنَّهُ بِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا نَعْلَمُ ، وَالتَّجْرِبَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ فَإِنَّ الطَّائِعِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الدِّينِ تُصْلَحُ أَحْوَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَيُرْجَى لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا يُرْجَى ، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا فَهْمًا كَامِلًا فَائِدَةَ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعَمَلِ ، فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَّالِيُّ مَثَلُ مَنْ وَثِقَ بِالطَّبِيبِ وَجَرَّبَ دَوَاءَهُ فَوَجَدَهُ نَافِعًا وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَيَّةَ فَائِدَةٍ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْأُخْرَى ، وَحَسْبُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الدَّوَاءَ الْمُرَكَّبَ نَافِعٌ يَشْفِي بِإِذْنِ اللَّهِ مِنَ الْمَرَضِ .
[ ص: 37 ] السَّعْيُ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ التَّعَبُّدِيِّ ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا )
nindex.php?page=treesubj&link=3272حَجُّ الْبَيْتِ : قَصْدُهُ لِلنُّسُكِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمَنَاسِكِ الْمَعْرُوفَةِ هُنَالِكَ ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ . وَالِاعْتِمَارُ :
nindex.php?page=treesubj&link=3959مَنَاسِكُ الْعُمْرَةِ وَهِيَ دُونُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ وُقُوفٌ
بِعَرَفَةَ وَلَا مَبِيتٌ
بِمُزْدَلِفَةَ وَلَا رَمْيُ جِمَارٍ فِي
مِنًى . وَالْجُنَاحُ بِالضَّمِّ : الْمَيْلُ إِلَى الْإِثْمِ ، كَجُنُوحِ السَّفِينَةِ إِلَى وَحْلٍ تَرْتَطِمُ فِيهِ ، وَالْإِثْمُ نَفْسُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ . وَيَطَّوَّفُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ التَّطَوُّفِ وَهُوَ تَكْرَارُ الطَّوَافِ أَوْ تَكَلُّفُهُ .
وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْجُنَاحِ - وَهُوَ الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنْ جَادَّةِ النُّسُكِ - فِي التَّطَوُّفِ بِهِمَا ، وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=3523التَّطَوُّفُ هُوَ الَّذِي عُرِفَ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالسَّعْيِ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ بِالْعَمَلِ ، وَهُوَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا فَسَوَاءٌ كَانَ رُكْنًا كَمَا يَقُولُ
مَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، أَوْ وَاجِبًا كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ ، أَوْ مَنْدُوبًا كَمَا رُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ .
وَقَالُوا فِي حِكْمَةِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ الَّذِي يَصْدُقُ بِالْمُبَاحِ : إِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَخْطِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الشَّعَائِرِ ، وَأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا مِنْ مَنَاسِكِ
إِبْرَاهِيمَ ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الطَّلَبَ جَزْمًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ) فِي هَذَا التَّطَوُّفِ وَغَيْرِهِ أَوْ كَرَّرَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ فَزَادَ عَلَى الْفَرِيضَةِ ; أَيْ : تَحَمَّلَهُ طَوْعًا - كَمَا قَالَ
الرَّاغِبُ - فَإِنَّ التَّطَوُّعَ فِي اللُّغَةِ : الْإِتْيَانُ بِمَا فِي الطَّوْعِ أَوْ بِالطَّاعَةِ أَوْ تَكَلُّفُهَا أَوِ الْإِكْثَارُ مِنْهَا ، وَأُطْلِقَ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالْخَيْرِ ; لِأَنَّهُ طَوْعٌ لَا كُرْهَ وَلَا إِكْرَاهَ فِيهِ ، وَعَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ : ( ( إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ ) ) أَيْ تَزِيدَ عَلَى الْفَرِيضَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) أَيْ : فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ ; لِأَنَّهُ شَاكِرٌ يَجْزِي عَلَى الْإِحْسَانِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33029لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَصْلًا مِنْ ذِكْرَى نَشْأَةِ الدِّينِ الْأُولَى بِمَكَّةَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ كَغَيْرِهِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ؟ وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ
إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْرَأَتِهِ (
سَارَّةَ ) مَا كَانَ ( مِنْ حَمْلِهَا إِيَّاهُ عَلَى طَرْدِ سُرِّيَّتِهِ
هَاجَرَ مَعَ طِفْلِهَا
إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفَصْلِ 21 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ ) خَرَجَ بِهِمَا إِلَى بَرِّيَّةِ
فَارَّانِ ( أَيْ مَكَّةَ ) فَوَضَعَهُمَا فِي
مَكَانِ زَمْزَمَ تَحْتَ دَوْحَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ سُكَّانٌ وَلَا مَاءٌ ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ - وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ زَوَّدَهَا بِخُبْزٍ - وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَتْ لَهُ : إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا ؟ قَالَ : ( ( إِلَى اللَّهِ ) ) قَالَتْ : رَضِيتُ بِاللَّهِ . وَهُنَالِكَ دَعَا
إِبْرَاهِيمُ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَتِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=37رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) إِلَى قَوْلِهِ -
[ ص: 38 ] ( يَشْكُرُونَ ) ( 14 : 37 ) فَلَمَّا نَفِدَ الْمَاءُ عَطِشَتْ وَجَفَّ لَبَنُهَا وَعَطِشَ وَلَدُهَا فَجَعَلَ يَتَلَوَّى وَيَنْشَغُ ( يَشْهَقُ لِلْمَوْتِ ) فَكَانَتْ تَذْهَبُ فَتَصَعَدُ
الصَّفَا تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا ، ثُمَّ تَذْهَبُ فَتَصَعَدُ
الْمَرْوَةَ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى وَلَدِهَا فَتَرَاهُ يَنْشَغُ ، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَبَعْدَ الْأَخِيرِ وَجَدَتْ عِنْدَهُ صَوْتًا فَقَالَتْ : أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غَوَاثٌ ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ
جِبْرِيلَ عِنْدَ
زَمْزَمَ فَغَمَزَ بِعَقِبِهِ الْأَرْضَ فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا ، وَمَرَّ نَاسٌ مَنْ جُرْهُمَ بِالْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ عَائِفَةٍ - أَيْ تُخُومٍ عَلَى الْمَاءِ - فَاهْتَدَوْا إِلَيْهِ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ وَنَشَأَ
إِسْمَاعِيلُ مَعَهُمْ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=918651قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَا ذَكَرَ سَعْيَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( ( فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا ) ) .
( الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ )
nindex.php?page=treesubj&link=29443وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِالشَّاكِرِ لَا يَظْهَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ ، فَالشُّكْرُ فِي اللُّغَةِ : مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانُ بِالثَّنَاءِ وَالْعِرْفَانِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19606وَشُكْرُ النَّاسِ لِلَّهِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ : عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ نِعَمِهِ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ يَدٌ أَوْ يَنَالُهُ مِنْ أَحَدٍ نِعْمَةٌ يَشْكُرُهَا لَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى .
فَالْمَعْنَى إِذَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِثَابَةِ الْمُحْسِنِينَ ، وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتْ مُقَابَلَةُ الْعَامِلِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شُكْرًا ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَاكِرًا . وَأَزِيدُ عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19607_19614اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِالْمَزِيدِ مِنْهَا ، فَسُمِّيَ هَذَا شُكْرًا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ .
وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا التَّعْبِيرِ تَعْلِيمُنَا الْأَدَبَ ، فَقَدْ عَلَّمَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذَا أَدَبًا مِنْ أَكْمَلِ الْآدَابِ بِمَا سَمَّى إِحْسَانَهُ وَإِنْعَامَهُ عَلَى الْعَامِلِينَ شُكْرًا لَهُمْ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا ، فَيَكُونُ إِنْعَامًا عَلَيْهِ وَيَدًا عِنْدَهُ ، وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ لَهُمْ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ يَفْهَمُ هَذَا الْخِطَابَ الْأَعْلَى أَنْ يَرَى نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَهُوَ لَا يَشْكُرُهُ وَلَا يَسْتَعْمِلُ نِعَمَهُ فِيمَا سِيقَتْ لِأَجْلِهِ ؟ ثُمَّ هَلْ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَرَى بَعْضَ النَّاسِ يُسْدِي إِلَيْهِ مَعْرُوفًا ثُمَّ لَا يَشْكُرُهُ لَهُ وَلَا يُكَافِئُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَوْقَ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ رُتْبَةً وَأَعْلَى مِنْهُ طَبَقَةً ؟ فَكَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ - تَعَالَى جَدُّهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - إِنْعَامَهُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِلَى النَّاسِ شُكْرًا ، وَاللَّهُ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُعْوِزُونَ ؟ .
nindex.php?page=treesubj&link=19614_19607شُكْرُ النِّعْمَةِ وَالْمُكَافَأَةُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَانِ ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ وَالْمُكَافَأَةِ مَفْسَدَةٌ لَا تُضَاهِيهَا مَفْسَدَةٌ ; إِذْ هِيَ مَدْعَاةُ تَرْكِ الْمَعْرُوفِ كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا شُكْرَهُ ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَتَنَا وَمَنْفَعَتَنَا ; لِأَنَّ كُفْرَانَ نِعَمِهِ بِإِهْمَالِهَا
[ ص: 39 ] أَوْ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ بِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ تَعَالَى ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَالْبَلَاءِ . وَأَمَّا تَرْكُنَا شُكْرَ النَّاسِ وَتَقْدِيرَ أَعْمَالِهِمْ قَدْرَهَا سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُمُ النَّافِعُ مُوَجَّهًا إِلَيْنَا أَوْ إِلَى غَيْرِنَا مِنَ الْخَلْقِ ، فَهُوَ جِنَايَةٌ مِنَّا عَلَى النَّاسِ وَعَلَى أَنْفُسِنَا ; لِأَنَّ صَانِعَ الْمَعْرُوفِ إِذَا لَمْ يَلْقَ إِلَّا الْكُفْرَانَ فَإِنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ عَمَلَ الْمَعْرُوفِ فِي الْغَالِبِ ، فَنُحْرَمُ مِنْهُ وَنَقَعُ مَعَ الْأَكْثَرِينَ فِي ضِدِّهِ فَنَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ( ( فِي الْغَالِبِ ) ) لِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ وَيَسْعَى فِي الْخَيْرِ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَطَلَبًا لِلْكَمَالِ ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ النُّفُوسِ الْكَبِيرَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَا يَنْظُرُ ذَوُوهَا إِلَى مُقَابَلَةِ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ بِالشُّكْرِ ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الصَّنِيعَةِ جَهْلُ النَّاسِ بِقِيمَةِ صَنِيعَتِهِمْ ، قَلَّمَا تَلِدُ الْقُرُونُ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ مَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مِنْهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ تَرْكَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ ، كَانَ الْفُتُورَ وَالْوَنْيَ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَدَعِ الْمَعْرُوفَ فَاعِلُهُ لِكُفْرَانِ النَّاسِ لِسَعْيِهِ تَرَكَهُ لِلْيَأْسِ مِنْ فَائِدَتِهِ ، أَوْ لِلْحَذَرِ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ ; إِذِ الْحَاسِدُونَ مِنَ الْأَشْرَارِ يَسْعَوْنَ دَائِمًا فِي إِيذَاءِ الْأَخْيَارِ ، كَذَلِكَ الشُّكْرُ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاضِ هِمَّةِ أَعْلِيَاءِ الْهِمَّةِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عَلَيْهَا جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ; ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَمَلَهُمُ الْخَيْرَ نَافِعًا فَيَزِيدُونَ مِنْهُ ، كَمَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ ضَائِعًا يَكُفُّونَ عَنْهُ . ( قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) بَعْدَ بَيَانِ حُسْنِ أَثَرِ الشُّكْرِ فِي الْمُخْلِصِينَ : وَيَرْوُونَ فِي هَذَا حَدِيثًا ارْتَقَى بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ وَهُوَ ( (
عَجِبْتُ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ يَسْمَنُ مِنْ أُذُنَيْهِ ) ) أَيْ كَانَ إِذَا ذُكِرَتْ أَعْمَالُهُ الشَّرِيفَةُ وَسَعْيُهُ فِي الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ يُسَرُّ وَيَسْمَنُ ، هَذَا وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْلَصُ الْمُخْلِصِينَ الْفَانِي فِي اللَّهِ تَعَالَى لَا يَبْتَغِي بِعَمَلِهِ غَيْرَ مَرْضَاتِهِ ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ أَجْدَرَ بِذَلِكَ مِمَّنْ إِذَا سَلِمَ مِنَ الِانْبِعَاثِ إِلَى الْخَيْرِ بِبَاعِثِ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ حُبِّ الثَّنَاءِ لِذَاتِهِ فَضْلًا عَنْ مَقْتِ الْكُفْرَانِ وَالْكَنُودِ