الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ) أي فلما أفلت كما أفل غيرها ، واحتجب [ ص: 469 ] ضوؤها المشرق وذهب سلطانها ، وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر - صرح - عليه الصلاة والسلام - بالنتيجة المرادة من ذلك التعريض ، فتبرأ من شرك قومه الذي أظهر مجاراتهم عليه في ليلته ويومه . والبراءة من الشيء : التفصي منه والتنحي عنه لاستقباحه ، فهو كالبرء من المرض ، وهو السلامة من ألمه وضرره ، و " ما " مصدرية أو موصولة ، أي : إني بريء من شرككم بالله تعالى أو من هذه المعبودات التي جعلتموها أربابا وآلهة مع الله تعالى . فيشمل الكواكب ، والأصنام ، وكل ما عبدوه وهو كثير .

                          ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق ، وهي التوحيد الخالص ، فقال : إني وجهت وجهي وقصدي ، وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السماوات والأرض ، أي : ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان ، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان ، فهو خالق هذه الكواكب النيرات ، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات ، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ( 40 : 125 ) وقوله : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ) ( 31 : 22 ) الآية . وقد تقدم في تفسير الأولى أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب ، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال ، والإعراض ، والخشوع ، والسرور ، والكآبة وغير ذلك ، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى : تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته ، وإخلاص عبوديته ، فهو وحده الرب المستحق للعبادة ، القادر على الأجر والإثابة . ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " وفي رواية " قلوبكم " رواه أحمد وأصحاب السنن . و " وجه " يتعدى باللام وإلى كأسلم ، وتقدم شاهد " أسلم " آنفا ، ولم يتكرر " وجه " في القرآن بهذا المعنى ، وإلا فاللام هنا بمعنى " إلى " كقوله تعالى : ( بأن ربك أوحى لها ) ( 99 : 5 ) وقوله : ( لعادوا لما نهوا عنه ) ( 6 : 28 ) واخترع الرازي للام هنا نكتة سماها دقيقة ، فقال : المعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه ؛ لأنه متعال عن الحيز والجهة ، بل إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته إلخ . فجعل اللام " دليلا ظاهرا " على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة . وهذا تحكم مردود لا تقبله اللغة ولا يقتضيه العقل ، ولا يتفق مع ما ورد في القرآن في معنى توجيه الوجه . أما إباء اللغة له فلأن اللام لو كانت للتعليل مع حذف مضاف لكانت الآية خالية من المقصود منها بالذات ، وهو كون توجيه القلب بالعبادة إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض ; إذ التعليل على ما فيه من التكلف يصدق بالتوجه إلى غيره تعالى توسلا إليه ، كالتوجه إلى الكوكب وغيره ، لأجل خالقه لا لأجله باعتقاد أنه هو الذي يقرب إليه زلفى ، أو يشفع عنده . وأما العقل فإنه يدرك أن توجه القلب [ ص: 470 ] لا ينحصر في كونه إلى الحيز والجهة المحصورة ، وأما القرآن فقد عدى إسلام الوجه ب ( إلى ) في سورة لقمان وباللام في سورة النساء ، وهي بمعنى توجيهه كما تقدم آنفا .

                          هذا وإن التعبير بفاطر السماوات والأرض هو وجه الحجة في الآية ، فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض - إن صح - لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء ، وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها ، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم ، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه ، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها ؛ لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها ، وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم ، وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد ; إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع ، وسيعاد إن شاء الله تعالى في تفسير : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( 21 : 22 ) وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة .

                          والحنيف صفة من الحنف ، وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة ، وضده الجنف بالجيم . فقوله حنيفا حال ، أي : وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها ، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء ، وما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات ، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين ، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل . تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ، ثم تبرأ منهم أنفسهم : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ) ( 60 : 4 ) روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض - : ما جئت بشيء ونحن نعبده وتتوجهه . فرد عليهم بأنه حنيف ، أي مخلص له ، لا يشرك به كما يشركون . انتهى بالمعنى .

                          وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى : كفتح ياء " إنى " وسكونها ، وإمالة " رأى " وكسر الراء والهمزة فيها ، ولكن قراءة يعقوب ضم " آزر " على النداء ، فهي دليل على كونه اسما علما ؛ لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح ، وغيره شاذ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية