( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) التبرؤ : المبالغة في البراءة ، وهي التفصي ممن يكره قربه وجواره تنزها عنه . و ( إذ ) ظرف متعلق بــ ( يرون العذاب ) في الآية السابقة ، والكلام متصل لاحقه بسابقه في موضوع اتخاذ الأنداد . وقد نطقت الآية السابقة أن عذاب الله تعالى سيحل بمتخذي الأنداد من دونه ، وهو عام في التابع في الاتخاذ والمتبوع فيه ، [ ص: 64 ] وفي أنواع الاتباع المذموم من التشريع بالرأي والهوى والتقليد فيه ، وغير ذلك من الضلال وبين في هاتين الآيتين تفصيل حال التابعين والمتبوعين في ذلك ، وأورده بصيغة الماضي تمثيلا لحال الفريقين في ذلك اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء ويرى الناس فيه العذاب بأعينهم ويعرفون أسبابه من تأثير العقائد الباطلة والأعمال السيئة في أنفسهم ، كأن الأمر قد وقع ، والبلاء قد نزل . ورأى الرؤساء المضلون الذين اتبعوا أن إغواءهم للناس الذين اتبعوا رأيهم ، وقلدوهم دينهم قد ضاعف عذابهم ، وحملهم مثل أوزار الذين أضلوهم فوق أوزارهم ، فتبرءوا منهم ، وتنصلوا من ضلالتهم ( ورأوا العذاب ) أي : والحال أنهم قد رأوا العذاب الذي هو جزاؤهم ماثلا لهم يوم الحساب ، فأنى ينفعهم التبرؤ ( وتقطعت بهم الأسباب ) أي : الروابط التي كانت بينهم وبين التابعين ، وإنما كان ينفعهم في الدنيا لو أنهم آثروا به الحق على الرئاسة والجاه والمنافع التي يستفيدها الرئيس باستهواء المرءوس وإخضاعه له وحمله على اتباعه ، أما وقد صدر عن نفوس ترتعد من رؤية العذاب الذي أشرفت عليه بما جنت واقترفت ، بعدما تقطعت الروابط والصلات بينها وبين المتبوعين واصطلمت ، فلا منفعة للمتبرئ تركت فيحمد تركها ، ولا هداية للمتبرأ منه ترجى فيحمد أثرها ، و ( الأسباب ) جمع سبب وهو في أصل اللغة : الحبل الذي يصعد به النخل وأمثاله من الشجر ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية .
لولا أن حيل بين المقلدين وهداية القرآن لكان لهم في هذه الآية أشد زلزال لجمودهم على أقوال الناس وآرائهم في الدين ، سواء كانوا من الأحياء أم الميتين ، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات أم في أحكام الحلال والحرام ; إذ كل هذا مما يؤخذ عن الله ورسوله ليس لأحد فيه رأي ولا قول إلا ما كان من الأحكام متعلقا بالقضاء وما يتنازع فيه الناس فلأولي الأمر فيه الاجتهاد بشرطه إقامة للعدل وحفظا للمصالح العامة والخاصة .
وإنما العلماء نقلة وأدلاء لا أنداد ولا أنبياء ، فلا عصمة تحوط أحدهم فيعتمد على فهمه وقصارى العدالة أن يوثق بنقله ويستعان بعلمه ، وما تنازعوا فيه يرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فهناك القول الفصل والحكم العدل . والله يحكم لا معقب لحكمه ولا مرد لأمره .
في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل قوله تعالى في سورة الأعراف : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) ( 7 : 38 ، 39 ) فكل يؤاخذ بعمله .
فإذا حمل الأول الآخر على رأيه ودعاه إلى اتباعه فيه أو في رأي غيره الذي يقلده هو فيه فهو من الأئمة المضلين ، وعليه إثمه ومثل إثم من أضلهم من غير أن ينقص من إثمهم شيء ، إذ حرم الله عليهم اتخاذ الأنداد من دون الله فاتخذوهم .
[ ص: 65 ] وأما من يبدي في الدين فهما ، ويقرر بحسب ما ظهر له من الدليل حكما ، يريد أن يفتح به للناس أبواب الفقه ، ويسهل لهم طريق العلم ، ثم هو يأمر الناس بأن يعرضوا قوله على كتاب الله وسنة رسوله ، وينهاهم أن يأخذوا به إلا أن يقتنعوا بدليله ; فهو من أئمة الهدى ، أعلام التقى ، وليس يضره أن يقلد فيه بغير علمه ، ويجعل ندا لله من بعد موته ، فإنه إذا كان مخطئا وجاء ذلك المقلد له على غير بصيرة يوم القيامة ينسب ضلاله إليه ، فإنه يتبرأ منه بحق ويقول : ما أمرتك أن تأخذ بقولي على علاته ولا أعرفك ، فالذين يتخذون أندادا يتبرءون كلهم يوم القيامة ممن اتخذوهم ، ولكنهم يكونون على قسمين : قسم عبدهم الناس كالمسيح وبعض أولي العلم والتقوى من هذه الأمة ومن الأمم قبلها ، أو قلدوهم وأخذوا بأقوالهم في الدين من غير دليل شرعي كبعض الأئمة المهتدين من غير أن يأمرهم هؤلاء بعبادتهم أو تقليدهم ، بل مع نهيهم إياهم عن عبادة غير الله تعالى وعن الاعتماد على غير وحيه في الدين ، فهذا القسم غير مراد هنا ; لأن الذين عبدوا أولئك الأخيار أو قلدوهم في دينهم لم يتبعوهم في الحقيقة ; إذ اتباعهم هو اتباع طريقتهم في الدين ، وما كانوا يشركون بالله أحدا ولا شيئا ، ولا يقلدون في دينه أحدا وإنما كانوا يأخذون دينه عن وحيه فقط . وقسم أضلوا الناس بأحوالهم وأقوالهم فاتبعوهم على غير بصيرة ولا هدى ، فهؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، إذ تتقطع بهم أسباب الأهواء والمنافع الدنيوية التي تربط - هنا - بعضهم ببعض .