هذا حكم جديد غير ما تقدم في قوله : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) فهذه الآية بيان للواجب في معاملة المطلقات ونهي عن ضده ووعيد على هذا الضد وإرشاد إلى المصلحة ، والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن هذا النهي . وتلك بيان لكيفية الطلاق المشروع وعدده وكون الأصل فيه أن يكون بغير عوض ، وكون أخذ العوض من المرأة لا يحل إلا بشرط . ولا ينافي هذا ما ورد في سبب نزولها وذكرناه في تفسيرها وهو أليق بهذه ، فإن هذه الآيات كلها نزلت في إبطال ما كان عليه الناس من سوء معاملة النساء في الطلاق ، فجميع الوقائع التي كانت تقع على العادات كانت تعد من أسباب النزول لها ، وقد ورد في أسباب نزول هذه ما نقله السيوطي في كتابه عن وهو في معنى رواية ابن جرير الترمذي والحاكم هناك قال : أخرج من طريق ابن جرير عن العوفي قال : ( ( كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها ثم يفعل ذلك يضارها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية ) ) وأخرج عن ابن عباس قال : ( ( نزلت في رجل من السدي الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله تعالى ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) اهـ . ولا تحسبن أن قوله تعالى : ( ولا تمسكوهن ) نزل وحده ، بل القول فيه كالقول في مجموع هذه الآيات في مسائل الطلاق ، نزلت كلها مرة واحدة فيما يظهر من سياقها ، ولكن بعد وقوع حوادث جعلت من أسبابها .
الأجل في وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) هو زمن العدة ومعنى ( قوله تعالى : ( بلغن أجلهن ) [ ص: 315 ] قاربن إتمام العدة . قال القرطبي : هذا إجماع لم يفهم أحد من الآية غيره ، وهو مبني على قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه تجوزا قرينته العرف ، يقول المسافر : بلغنا البلد أو وصلنا إليه إذا دنا منه وشارفه . وقوله : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) معناه : فاعزموا أحد الأمرين - إمساك المرأة بالمراجعة أو إطلاق سبيلها - وليكن ما تختارونه من أحد الأمرين بالمعروف الذي شرع لكم في آية ( ( الطلاق مرتان ) ) ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) أي : ولا تراجعوهن إرادة مضارتهن وإيذائهن للاعتداء عليهن بتعمد ذلك ، فالضرار بمعنى الضرر ، وذكر بالصيغة التي تأتي للمشاركة للإشعار بأن ضره إياها يستلزم ضرها إياه ، فالرجال يضرون أنفسهم بإيذاء النساء ، ويؤيد هذا قوله : ( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ) في الدنيا بسلوك طرق الشر والاعتداء التي لا راحة لضمير صاحبها ، ويجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه ، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد . وبتنفير الناس منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد ، وظلم نفسه في الأخرى أيضا بما خالف أمر الله وتعرض لسخطه .
ثم قال تعالى : ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) وهذا وعيد بعد وعيد ، وتهديد لمن يتعدى حدود الله في هذه الأحكام أي تهديد ، والسبب فيه حمل المسلمين على احترام صلة الزوجية ، وتوقي ما كانوا عليه في عهد الجاهلية ، فقد كانوا يتخذون النساء لعبا ، ويعبثون بطلاقهن وإمساكهن عبثا ، وفي أسباب النزول : أخرج في مسنده ابن أبي عمر وابن مردويه عن قال : ( ( كان الرجل يطلق ، ثم يقول : لعبت ، ويعتق ثم يقول : لعبت ) ) ، فأنزل الله ( أبي الدرداء ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) أي : أنزله فيما أنزل من آيات أحكام الطلاق ، لا أنه أنزله على حدة كما تقدم نظيره في نظيره ، والمعنى لا تتهاونوا بحدود الله تعالى التي شرعها لكم في آياته جريا على سنن الجاهلية; فإن هذا التهاون والاعتداء للحدود بعد هذا البيان والتأكيد من الله تعالى يعد استهزاء بآياته ، ومن هنا قال بعض السلف : المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه ، ولا شك أن الذي يخالف أمر الله وينقض هذه العهود بعد توثيقها طلبا لشهوة من شهواته ، أو استمساكا بعادة من عاداته ، فهو جدير بأن يعد مستهزئا بآيات الله غير مذعن لها .
بعد التحذير من التهاون بحقوق النساء وجعل العابث بأحكام الله فيها مستهزئا بآياته - وفي ذلك من الوعيد والترهيب ما فيه - أراد تعالى أن يقرر هذه الأحكام في النفوس بباعث الترغيب فيها بالتذكير بفوائدها ومزاياها ، وبيان المنة في هداية الدين التي هي منها فقال : ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) أي : امتثلوا ما ذكر آنفا من أمر ونهي ، وتذكروا نعمة الله عليكم بالفطرة السليمة في الرابطة [ ص: 316 ] الزوجية المعبر عنها بقوله تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ( 30 : 21 ) وما أنزله عليكم من آيات الأحكام المكملة للفطرة في الزوجية والحكمة فيها حال كونه يعظكم بالجمع بينهما - أي : الأحكام وحكمتها - فإن معرفة الشيء مع حكمته هي التي تحدث العظة والعبرة الباعثة على الامتثال ، ولا يبعد أن تكون هذه الآيات النفسية هي المرادة بقوله تعالى : ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) .
وقد أفسد على الناس تلك المودة والرحمة ، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة ، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح ، غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى ، وكفران النساء لنعمة الرجال وحفظ سيئاتهم ، وتماديهن في الذم لها والتبرم بها ، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين ، وقلد به الناس بعضهم بعضا ، فالله سبحانه وتعالى ذكرنا أولا بنعمته علينا في أنفسنا لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتباع الهوى ، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكين صلة الزوجية واحترامها وتوثيقها ، وثانيا بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذلك ، وحد لنا كتابه الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها ، مؤيدا لها بالوعظ السائق إلى اتباعها .
وما ذكرنا بالكتاب هنا إلا لنجعله إماما لنا في تقويم الفطرة على ما مضت به السنة وعززته الحكمة ، ولكننا قد أعرضنا عنه ، فمن نظر في شيء من هذه الأحكام فإنما ينظر فيما كتبه بعض البشر مما هو خلو من حكمة التشريع ، غير مقرون بشيء من الترغيب والترهيب ، فهو لا يحدث للنفوس عظة ولا ذكرى ، ولا يبعث في القلوب هداية ولا تقوى ، على أن أكثر المسلمين لا ينظر فيها ، ولا يسأل العارفين بها عنها ، إلا أن يكون لأجل الاستعانة على حقوق يهضمها ، أو صلات يقطعها وعرى يفصمها ، فهو يستفتي غالبا ليأمن مؤاخذة الحكام لا ليقيم حدود الإسلام ، وإذا قام فيهم داع يدعو إلى الله ، ويذكر المؤمنين بآيات الله رماه الرؤساء بسهام الملام ، وأغروا به الساسة وأهاجوا عليه العوام ، خائفين أن يحيي ما أماتوه من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة ، زاعمين أنه يبطل مذاهب الأئمة ، على أن التذكير هو الذي يحيي علم المجتهدين; لأنهم كانوا مذكرين به ومبينين ، لا صادين عنه ولا ناسخين ، وما كل من اهتدى بهديهم في التذكير والتبيين يلحقهم في الاستنباط والتدوين . فيا أيها العلماء أحيوا كتاب الله ، فوالله إنه لا حياة لهذه الأمة بسواه; ولذلك عادت بترك هديه إلى عادات الجاهلية ، وما هو شر منها من إباحية الإفرنج العصرية ، اتباعا للهوى ونزغات البهيمية .
هذا وإن جمهور المفسرين فسروا نعمة الله هنا بالدين والرسالة ، وجعلوا ما أنزل [ ص: 317 ] من الكتاب والحكمة تفصيلا للنعمة المجملة . قال الأستاذ الإمام : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) بإرسال هذا الرسول ، وبيان الحدود والحقوق التي تحفظ لكم الهناءة في الدنيا ، وتضمن لكم السعادة في الآخرة ، وذكر أن ما بعد هذا تفصيل له ، وفسر الحكمة بسر الكتاب ، ثم قال : وفي النعمة وجه آخر ، وهي هذه الرحمة التي جعلها الله بين الرجال والنساء ، وامتن بها علينا في قوله : ( وجعل بينكم مودة ورحمة ) ( 30 : 21 ) وإنما أوردنا هذا الوجه أولا بالبيان والتفصيل; لأنه هو المختار عندنا ، وذهب بعضهم إلى أن النعمة هنا عامة تشمل نعم الدنيا والدين .
( واتقوا الله ) أمر بعد كل ما تقدم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية - وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام - مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية ، إذ كانوا يرونه كعقد الرق والبيع والإجارة في المتاع الخسيس والنفيس ، بل كانوا يرونه دون ذلك; لأن الرجل لم يكن يشتري متاعا ثم يرمي به في الطريق زهدا فيه ، ولم يكن يمسك قنه ليعذبه وينتقم به ، ولكنهم كانوا يطلقون المرأة لأدنى سبب - كالملل والغضب - ثم يعودون إليها ، يفعلون ذلك المرة بعد المرة ، وكانوا يمسكونها للضرار والإهانة كما تقدم آنفا ، وقد يستبدل الواحد منهم امرأة الآخر بامرأته ، فاعتياد هذه المعاملة السوءى والأنس بها لا تكون مقاومته إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد; إذ لا يسهل على الرجل الذي كان يرى المرأة مثل الأمة أو دونها أن يساويها بنفسه بمجرد الأمر ، ويرى لها عليه مثل ما له عليها ، ويحظر على نفسه مضارتها وإيذاءها ويلتزم معاملتها بالمعروف في حال إمساكها عنده ، وفي حال تسريحها إن اضطر إليه ، ولكن هذه العظات والتشديدات المشتملة على الإقناع وبيان المصلحة هي التي تعمل في نفسه ، وتؤثر بتكرارها في قلبه ، وإن كان كالحجارة في القسوة :
أما ترى الحبل بتكراره في الصخرة الصماء قد أثرا
نعم إنه قد كان له أحسن التأثير في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ، وفيمن اتبعهم بإحسان ، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن ، وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام ، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية ، وسائر الأمم من ظلم النساء ، فلم يتقوا الله في ذلك ولا تدبروا قوله بعدما تقدم .
وقوله : ( واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) وهو أبلغ في موضعه من كل ما تقدم من التأكيد والتشديد في حقوق النساء; لأن الإنسان قد يراعي الأحكام الظاهرة بقدر الإمكان بغير إخلاص فيطبق العمل على الحكم على وجه يعلم أن من ورائه ضررا ، فهذه الجملة تذكره بأن الله [ ص: 318 ] تعالى لا يخفى عليه شيء مما يسره العبد أو يعلنه ، فلا يرضيه إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه ، مع الإخلاص وحسن النية ، حتى يكون ظاهره كباطنه في الخير ، ولا يتم له ذلك إلا بمراقبة الله تعالى في عمله ، والعلم اليقين بأنه مطلع عليه فيه ، لا يبيت قولا أو فعلا ، ولا ينوي خيرا أو شرا ، ولا يطوف في ذهنه خاطر ، ولا تختلج في قلبه خلجة إلا وهو سبحانه عالم بذلك ومطلع عليه ، فلا طريق له إلى مرضاة ربه إلا بتطهير قلبه ، وإخلاص نيته في معاملة زوجه وفي سائر المعاملات .
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : من حسنت نيته حسن عمله غالبا بل كان موفقا دائما .
أقول : ومن التوفيق أن يستفيد من خطئه الذي لم يرد به سوءا ، فيعرف كيف يتوقى مثل هذا الخطأ ، ويزداد بصيرة في الخير ، فليزن المؤمنون أنفسهم بميزان هذه الآية الكريمة وأمثالها وهي الموازين القسط; ليعلموا أن منشأ فساد البيوت وشقاء المعيشة هو الإعراض عن هدي الكتاب المبين ، وأنه لا سبيل إلى السعادة إلا بالرجوع إليه ، وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه .