ولما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال : ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن ، قالوا : ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا ، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن; لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة ، والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن منهجه إلى عرض منه وهو الجانب ، ويقابله التصريح ، فهو أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح يحتمله الكلام على بعد بمعونة القرينة، وفي الكشاف هو : أن تذكر شيئا تدل به على شيء لا تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم . أقول : وللناس في كل عصر كنايات في هذا المقام ، ومما سمعته من استعمال عامة زماننا في هذا ذكر الرغبة في الزواج مسندة إلى أناس مبهمين ، نحو أن من الناس من يتمنى لو يكون له كذا أو يوفق إلى كذا ، والخطبة - بالكسر من الخطاب أو الخطب وهو الشأن العظيم ، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس ، وأما الخطبة - بالضم - فهي ما يوعظ به من الكلام ، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة ، أباح الله تعالى أن [ ص: 338 ] ، وقرن ذلك بما يكون من النية في القلب والعزم المستكن في الضمير ، كأنه مثله في تعذر الاحتراز منه أو تعسره ، ولم يحرم عليهم أن يقطعوا في هذا الأمر بأنفسهم لأن الأمر أمر ديني ، بل راعى فيما شرعه لهم ما فطرهم عليه ، ولذلك ذكر وجه الرخصة فقال : ( يعرض الرجل للمرأة في العدة بأمر الزواج تعريضا علم الله أنكم ستذكرونهن ) في أنفسكم ، وخطرات قلوبكم ليست في أيديكم ، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن النطق لهن بما في أنفسكم ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح ، فقفوا عند حد الرخصة ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) أي في السر; فإن المواعدة السرية مدرجة الفتنة ومظنة الظنة . والتعريض يكون في الملأ لا عار فيه ولا قبح ، ولا توسل إلى ما لا يحمد ، وذهب جمهور العلماء إلى أن السر هنا كناية عن النكاح; أي : لا تعقدوا معهن وعدا صريحا على التزوج بهن ، قال الأستاذ الإمام : عبر عن النكاح بالسر; لأنه يكون سرا في الغالب ، وروي عن أنه قال : المواعدة سرا أن يقول لها : إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا ، وقيل : هي المواعدة على الفاحشة ، والدليل على أن النهي عام يراد به تحريم الكلام الصريح معها في الخلوة قوله : ( ابن عباس إلا أن تقولوا قولا معروفا ) قيل : هو التعريض ، وقال الأستاذ الإمام : هو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين بلا نكير كالتعريض ، وهذا أقوى من التعريض .
وجملة القول أنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج بالسر ويتواعدوا معهن عليه ، وكل ما رخص لهم فيه هو التعريض الذي لا ينكر الناس مثله في حضرتهن ، ولا يعدونه خروجا عن الأدب معهن ، والفائدة منه التمهيد وتنبيه الذهن ، حتى إذا تمت العدة كانت المرأة عالمة بالراغب أو الراغبين ، فإذا سبق إلى خطبتها المفضول ردته إلى أن يجيء الأفضل عندها ، وقد أوضح الأمر وسلك فيه مسلك الإطناب; لأن الناس يتساهلون في مثل هذه الأمور لما لهم من دافع الهوى إليها; ولذلك صرح بما فهم من سابق القول من جواز القصد إلى العقد بعد تمام العدة فقال :
( ولا تعزموا عقدة النكاح ) أي : على عقدة النكاح على حذف ( ( على ) ) ويقال : عزم الشيء وعزم عليه واعتزمه; أي : عقد ضميره على فعله ، أو المعنى لا تعقدوا عقدة النكاح وهو العزم المتصل بالعمل لا ينفصل عنه ( حتى يبلغ الكتاب أجله ) أي : حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدة ، فالكتاب بمعنى المكتوب; أي : المفروض أو بمعنى الفرض ، قال تعالى : ( كتب عليكم الصيام ) ( 2 : 183 ) وقال : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ( 4 : 103 ) وإنما عبر عن الفرضية المحتمة بلفظ الكتاب; لأن ما يكتب يكون أثبت وآكد وأحفظ ، وفسر بعضهم الكتاب بالقرآن على أن المراد به العدة أيضا كأنه قال : حتى يتم ما نطق به [ ص: 339 ] القرآن من مدة العدة ، والحاصل أن محرم قطعا ، ولأجله حرمت خطبتها فيها ، والعقد باطل بإجماع المسلمين . التزوج بالمرأة في العدة
ثم قال : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) أي : يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم فاحذروا أن تعزموا ما حظره عليكم منه من قول وعمل ، قال الأستاذ الإمام : هذا التحذير راجع للأحكام التي تقدمت من التعريض وغيره جاء على أسلوب القرآن وسنته في قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا ، تأكيدا للمحافظة عليها والالتفات إليها ، ولا يقال : إن العلم بما في النفس أعم من الخبر بالعمل ، فيستغنى عن هذا بما ختمت به الآية السابقة; لأن لكل كلمة مما ورد في هذا الكلام أثرا مخصوصا في النفس ، والمقصود واحد ، وما دامت الحاجة ماسة إلى شيء فلا يقال : إن في الإتيان به تكرارا مستغنى عنه ، وإن كثر وتعدد ولو بلغ الألوف بلفظه ، فكيف به إذا تنوع بعموم أو خصوص أو غير ذلك ؟ وقوله : ( واعلموا أن الله غفور حليم ) بعد ما ورد من الوعيد والتشديد في الآيات السابقة يبين أن للإنسان مخرجا بالتوبة إذا هو تعدى شيئا من الحدود وأراد الرجوع إلى الله تعالى ، فإنه غفور له حليم لا يعجل بعقوبته ، بل يمهله; ليصلح بحسن العمل ما أفسد بما سبق من الزلل .