[ ص: 360 ] لما ذكر تعالى من الأحكام ما ذكر في الآيات السابقة ، قفى عليه بذكر بعض أخبار الماضين لأجل العظة والاعتبار بما تتضمنه الوقائع والآثار ، كما هي سنة القرآن ، في تنويع التذكير والبيان ، بل الانتقال هنا إنما هو من الأحكام مسرودة مع بيان حكمتها ، والتنبيه لفائدتها ، إلى حكم سبقته حكمته ، وتقدمته فائدته ، في ضمن واقعة مضت زيادة في البصيرة ومبالغة في الحمل على الاعتبار ، وهو حكم القتال في سبيل الله ، ويتلوه حكم بذل المال في سبيله . الأحكام السابقة تتعلق بالأشخاص في أنفسهم وبيوتهم ، وهذان الحكمان في أمر عام يتعلق بالأمم من حيث حفظ وجودها ، ودوام استقلالها ، بمدافعة المعتدين عنها ، وبذل الروح والمال في حفظ مصالحها ، وتوفير منافعها; ولذلك كان الأسلوب أشد تأثيرا ، وأعظم تذكيرا; لأن الإشارة في سياق التذكير بمنافع الشخص ومصالحه في نفسه وفيمن يتصل به كافية للتذكر والعمل بما يوعظ به لموافقة ذلك لهواه ، فلها من النفس عون لا يغيب ، ووازع لا يعصى ، وأما المصالح العامة فإنه لا يفطن لها ولا يرغب فيها إلا الأقلون ، فالعناية بالدعوة إليها يجب أن تكون بمقدار بعد الجماهير عنها ، فمن ثم جاءت هذه الآيات ببيان أجلى وأسلوب أفعل وأقوى ، كما ستعلم تفسيرها عن الأستاذ الإمام ، لا عن القصاصين وأصحاب الأوهام .
رووا في قصة ( الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ) روايات من الإسرائيليات التي ولع بها المفسرون وكلفوا بتطبيق كتاب الله تعالى عليها ، أشهرها أبعدها عن السياق وهي رواية قال : كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها والذين بقوا مات أكثرهم ، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع جميع الذين هربوا سالمين ، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منا ، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ، ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن كما خرجوا ، فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا ، فلما خرجوا من ذلك الوادي ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا . فهلكوا وبليت أجسامهم ، فمر بهم نبي يقال له : السدي حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم وتفكر فيهم; فأوحى الله تعالى إليه ( ( أتريد أريك كيف أحييهم ) ) ؟ فقال : نعم ، فقيل له ناد : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ، ثم أوحى الله تعالى إليه ناد : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما ، فصارت لحما ودما ، ثم ناد : إن الله يأمرك أن تقومي . فقامت ، فلما صاروا أحياء قاموا ، وكانوا يقولون : سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنهم ماتوا في وجوههم ، ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم .
[ ص: 361 ] أقول : على هذه الرواية اقتصر ( الجلال ) مع علمه بأن السدي هذا هو محمد بن مروان الكوفي المفسر الكذاب كما قال وغيره - وليس هو ابن جرير التابعي الذي وثقه إسماعيل السدي أحمد وضعفه - وذكر في عددهم أقوالا أقلها أربعة آلاف وأكثرها سبعون ألفا ، وأنهم عاشوا دهرا ، عليهم أثر الموت ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن ، واستمرت في أسباطهم ! ابن معين
وهناك رواية أخرى : وهي أن ملكا من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا لأن الأرض التي دعوا إلى قتالها موبوءة ، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم فأحياهم الله تعالى وبقي فيهم شيء من ذلك النتن ، وفي بعض القصص أن ذلك انتقل إلى ذريتهم وسيبقى فيهم حتى ينقرضوا ! وقلما نجد في العلماء من ينبه الناس لهذه الأكاذيب .
والرواية الثالثة : هي أن حزقيل النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب قومه إلى القتال فكرهوا وجبنوا ، فأرسل الله عليهم الموت فكثر فيهم فخرجوا من ديارهم فرارا منه ، فدعا عليهم نبيهم فأرسل الله الموت على الخارجين ، ثم ضاق صدره فدعا الله فأحياهم ، ولكن هذا لم يذكر في نبوة حزقيل من كتب العهد العتيق ولا في غيرها .
إذا علمت هذا فألق السمع إلى ما نرويه لك عن الأستاذ الإمام ، وتدبر ما فيه من حقائق علم الاجتماع في القرآن; لتعلم أن حقائق هداية كتاب الله يتجلى منها في كل عصر للعارفين بالله ما لم يتجل لسواهم ، وأنه الكتاب الذي لا تنتهي هدايته ولا تنفد معارفه ، وأن هذه الأمة كالمطر قد يكون في آخره من الخير والبركة ما لم يكن في أوله كما روي في الحديث الصحيح .
قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) الاستفهام هنا للتعجيب والعبرة ، والخطاب لكل من بلغه ، والرؤية بمعنى العلم ، والعبارة استعملت استعمال المثل ، فهي توجه إلى من لم ير ولم يعلم ذلك ، والتقدير : ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ( وهم ألوف حذر الموت ) ؟ فإن حالهم عجيبة من حقها ألا تجهل ، فإنهم في كثرتهم أحقاء بأن يكون لهم من الشجاعة ما يربأ بهم عن الخروج من وطنهم حذرا من الموت .
[ ص: 362 ] قال شيخنا الأستاذ الإمام في هذا المثل ما مثاله : وفي تفسير ابن كثير ، عن عن ابن جريج ، عطاء أن هذا مثل; أي : لا قصة واقعة .
أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم ، ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين ، فنأخذ القرآن على ما هو عليه، لا ندخل فيه شيئا من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها ، وهي صارفة عن العبرة لا مزيد كمال فيها ، والمتبادر من السياق أن أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم ، فقد كانوا ألوفا; أي : كثيرين ، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت ، وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله ، قال أبو الطيب :
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
قال الأستاذ الإمام في قول ( الجلال ) إن الاستفهام بها استفهام تعجيب وتشويق; أي : إن الاستفهام الحقيقي ممتنع من الله تعالى; ولذلك كان أكثر استفهام القرآن للإنكار أو للتقرير ، ولكن الاستفهام هنا لشيء آخر وهو ما يحدث العجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويوجب الشوق له إلى ما يقص عليه ، والمعنى ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم إلخ ؟ والرؤية بمعنى العلم يمتنع أن تكون بصرية ، ولم يقل : ألم تعلم للإشعار بأن الأمر المحكي عنه قد انتهى في الوضوح والتحقق إلى مرتبة المرئي .
أقول : ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة ، بل يصح مثله في القصص التمثيلية ، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوما حتى كأنه مرئي بالعينين .
ومنه ما نبهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم ، وقد قالوا : إن العطف في قوله تعالى : ( وقاتلوا ) للاستئناف; لأن الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف .
قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب كما هو الشأن هنا; فإن الآية الأولى مبينة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة ، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه ، فالارتباط بينهما شديد الأواخي ، لا يعتريه التراخي .
خرجوا فارين ( فقال لهم الله موتوا ) أي : أماتهم بإمكان العدو منهم ، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع; أي : قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت ، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار ، ففتك بهم وقتل أكثرهم ، ولم يصرح بأنهم [ ص: 363 ] ماتوا; لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه فلا يمكن تخلفه ، وللاستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك : ( ثم أحياهم ) وإنما يكون الإحياء بعد الموت ، والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية; لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها ، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف ، فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم ، وأزال استقلال أمتهم ، حتى صارت لا تعد أمة ، بأن تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكل من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم ، مدغمين في غمارهم ، لا وجود لهم في أنفسهم ، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم ، ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم; ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس ، أنه يكون تأديبا لهم ، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة ، أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال ، فهذا معنى حياة الأمم وموتها ، يموت قوم منهم باحتمال الظلم ، ويذل الآخرون حتى كأنهم أموات ، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية ، من حفظ سياج الوحدة ، وحماية البيضة ، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت ، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم ، قال علي كرم الله وجهه : ( ( إن بقية السيف هي الباقية ; أي : التي يحيا بها أولئك الميتون ، فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهدنا في أسلوب القرآن ، إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنزيله بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله : ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) ( 2 : 49 ) وقوله : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ( 2 : 56 ) وغير ذلك ، وقلنا : إن الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمة وتكافلها ، وتأثير سيرة بعضها في بعض حتى كأنها شخص واحد ، وكل جماعة منها كعضو منه ، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه ، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي . يقال : هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم أو أتينا عليهم ، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا - مثلا - وإنما كر عليهم من بقي منهم .
أقول : وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ( 8 : 24 ) وقوله : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ( 6 : 122 ) الآية . وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو ، وإلى عطفه الإخبار [ ص: 364 ] بإحيائهم بـ ( ثم ) الدالة على تراخي ذلك وتأخره; ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات إلا في زمن طويل ، فما قرره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة ، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) ( 44 : 56 ) وقال : ( وأحييتنا اثنتين ) ( 40 : 11 ) ولذلك أول بعضهم الموت هنا بأنه نوع من السكتة والإغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها ، وقد قال بعد ما قرره : هذا هو المتبادر فلا نحمل القرآن ما لا يحمل لنطبقه على بعض قصص بني إسرائيل ، والقرآن لم يقل إن أولئك الألوف منهم كما قال في الآيات الآتية وغيرها ، ولو فرضنا صحة ما قالوه من أنهم هربوا من الطاعون ، وأن الفائدة في إيراد قصتهم بيان أنه لا مفر من الموت; لما كان لنا مندوحة عن تفسير إحيائهم بأن الباقين منهم تناسلوا بعد ذلك وكثروا ، وكانت الأمة بهم حية عزيزة; ليصح أن تكون الآية تمهيدا لما بعدها مرتبطة به ، والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ثم يحيينا ، بمعنى أنه يبعث من قتل منا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا .
( إن الله لذو فضل على الناس ) كافة بما جعل في موتهم من الحياة ، إذ جعل المصائب والعظائم محيية للهمم والعزائم كما جعل الهلع والجبن وغيرهما من الأخلاق التي أفسدها الترف والسرف من أسباب ضعف الأمم ، وجعل ضعف أمة مغريا لأمة قوية بالوثبان عليها ، والاعتداء على استقلالها ، وجعل الاعتداء منبها للقوى الكامنة في المعتدى عليه ، وملجئا له إلى استعمال مواهب الله فيما وهبت لأجله حتى تحيا الأمم حياة عزيزة ، ويظهر فضل الله تعالى فيها .
قال الأستاذ الإمام : المراد بالفضل هنا الفضل العام ، وهو أنه تعالى جعل إماتة الناس بما يسلط على الأمة من الأعداء ينكلون بها بمثابة هدم البناء القديم المتداعي والضرورة قاضية ببنائه ، فلا جرم تنبعث الهمة إلى هذا البناء الجديد فيكون حياة جديدة للأمة ، تفسد أخلاق الأمم فتسوء الأعمال ، فيسلط الله على فاسدي الأخلاق النكبات ليتأدب الباقي منهم فيجتهدوا في إزالة الفساد ، وإدالة الصلاح ، ويكون ما هلك من الأمة بمثابة العضو الفاسد المصاب ( ( بالغنغرينا ) ) يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله ، ومن لا يقبل هذا التأديب الإلهي فإن عدل الله في الأرض يمحقه منها ( وما للظالمين من أنصار ) ( 2 : 270 ) فهذه سنة من سنن الاجتماع بينها القرآن وكان الناس في غفلة عنها ، ولهذا قال :
( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) أي : لا يقومون بحقوق هذه النعمة ، ولا يستفيدون من بيان هذه السنة; أي هذا شأن أكثر الناس في غفلتهم وجهلهم بحكمة ربهم ، فلا تكونوا كذلك أيها المؤمنون ، بل اعتبروا بما نزل عليكم وتأدبوا به لتستفيدوا من كل حوادث الكون ، حتى مما ينزل بكم من البلاء إذا وقع منكم تفريط في بعض الشئون ، واعلموا أن [ ص: 365 ] الجبن عن مدافعة الأعداء ، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار ، هو الموت المحفوف بالخزي والعار ، وأن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملية المحفوظة من عدوان المعتدين ، فلا تقصروا في حماية جامعتكم في الملة والدين .
( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) القتال في سبيل الله : هو القتال لإعلاء كلمته ، وتأمين دينه ونشر دعوته ، والدفاع عن حزبه كي لا يغلبوا على حقهم ، ولا يصدوا عن إظهار أمرهم ، فهو أعم من القتال لأجل الدين; لأنه يشمل مع الدفاع عن الدين وحماية دعوته الدفاع عن الحوزة إذا هم الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا ، أو أراد العدو الباغي إذلالنا ، والعدوان على استقلالنا ، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا في ديننا ، فهذا الأمر مطلق كأنه أمر لنا بأن نتحلى بحلية الشجاعة ، ونتسربل بسرابيل القوة والعزة; لتكون حقوقنا محفوظة ، وحرمتنا مصونة ، لا نؤخذ من جانب ديننا ، ولا نغتال من جهة دنيانا ، بل نبقى أعزاء الجانبين ، جديرين بسعادة الدارين ، ألا ترى أن من ساق الله لنا العبرة بحالهم ، وذكرنا بسنته في موتهم وحياتهم ، لم يذكر أنهم قوتلوا وقتلوا لأجل الدين ! فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق كله جهاد في سبيل الله ، فتفسير ( الجلال ) سبيل الله بإعلاء دينه تقييد لمطلق ، وتخصيص لقول عام من غير دليل ، وقد اتفق الفقهاء على أن ، يكون قتاله فرض عين . العدو إذا دخل دار الإسلام
ذكرنا الله تعالى بعد هذا الأمر بأنه سميع عليم; لينبهنا على مراقبته فيما عسى أن نعتذر به عن أنفسنا في تقصيرها عن امتثال هذا الأمر في وقته ، وأخذ الأهبة له قبل الاضطرار إليه ، أمرنا أن نعلم أنه سميع لأقوال الجبناء في اعتذارهم عن أنفسهم : ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة ، ليس لها من دون الله كاشفة ، ليس لنا من الأمر شيء ، لو كان لنا من الأمر شيء ما قعدنا هاهنا ، فهذه الألفاظ في هذا المقام مفتاح الجبن ، وعلل الخوف والحزن ، فهي عند أهلها تعلات وأعذار ، وعند الله تعالى ذنوب وأوزار ، وما كان منها حقا في نفسه فهو من الحق الذي أريد به الباطل - وأن نعلم أنه عليم بما يأتيه مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من الحيل والمراوغة ، والفرار من الاستعداد والمدافعة ، فإذا علمنا هذا وحاسبنا به أنفسنا ، عرفنا أن كلا من المعتذر بلسانه والمتعلل بفعاله مخادع لربه ولنفسه وقومه . قال الأستاذ الإمام بعد نحو مما تقدم : وكثير من الناس يهزأ بنفسه وهو لا يدري إذ يصدق ما يعتاده من التوهم ، وهذه شنشنة المخذولين الذين ضربت عليهم الذلة وخيم عليهم الشقاء ، تعمل فيهم هذه الوساوس مالا تعمل الحقائق ، وقد أنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بتذكيرنا بأنه سميع عليم ، لا يخادع ولا يخفى عليه شيء . ونقول : إن هذا التذكير كان بالأمر بالعلم لا بمجرد القول أو التسليم ، فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول عليم بما يفعل ، حاسب نفسه وناقشها ، ومن حاسب [ ص: 366 ] نفسه وناقشها تجلى له كل آن من تقصيرها ما يحمله على التشمير لتدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت ، فمن تراه مشمرا فاعلم أنه عالم ، ومن تراه مقصرا فاعلم بأنه مغرور آثم .