nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28974_29675ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم الأمنة : الأمن وهو ضد الخوف ، والنعاس معروف ، وهو فتور يتقدم النوم ويظهر أثره في العينين ، قرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " تغشى " بالفوقية أي الأمنة والباقون " يغشى " بالتحتية أي النعاس . يقال غشيه النعاس أو النوم كما يقال ران عليه أي عرض له فاستولى عليه وغطاه ، كما يلقى الستر على الشيء . وقد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس ، وأنه كان أثناء القتال ، وإنما كان مانعا من الخوف فهو ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر ، ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم . واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال . قال ما مثاله : اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس فقال بعضهم : إن ذلك كان في أثناء الوقعة وأن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم . وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=11إذ يغشيكم النعاس أمنة منه [ 8 : 11 ] وإنما هذه في غزوة
بدر ، وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ، ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا ، وقد كان المؤمنون يوم
بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا لأسداس ، ويفكرون بما سيلاقون في غدهم
[ ص: 153 ] من الشدة والبأس ، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس ، غشيهم فناموا واثقين بالله - تعالى - مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه ، فالنعاس لم يكن يوم
بدر في وقت الحرب بل قبلها ، ومثله المطر الذي أنزل عليهم عند شدة حاجتهم إليه وقد قرن ذكره به في الآية التي ذكرتهم بعناية الله بهم في ذلك .
وأما النعاس يوم
أحد فقد قيل : إنه كان في أثناء الحرب ، وقيل : إنه كان بعدها ، وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم
أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم ، فكانوا بعد انتهاء الوقعة قسمين : فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم ، وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم - راجع آية
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [ 3 : 135 ] وعلموا أنه إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة ، فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم ، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا ، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف ، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة ، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب والراحة للأجسام والتسليم للقضاء ، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم ، وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك ، فاستجابوا له مذعنين .
قال : واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها من المنافقين كما قيل : فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم ، وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره . وقد بين ظنهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يقولون هل لنا من الأمر من شيء فنلام أن ولينا وغلبنا ؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء ، فإنهم فهموا مما وقع يوم
بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في
أحد كأنه مناف لحقيقة الدين ، وهذا خطأ عظيم ، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين . أقول وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قل إن الأمر كله لله لا أمر النصر وحده ، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته - تعالى - في خلقه ونظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا أي لو كان أمر
[ ص: 154 ] النصر والظفر بأيدينا لما وقع فينا القتل هاهنا ، يقررون رأيهم ، ويستدلون عليه بما وقع لهم ، غافلين عن تحديد الآجال ; ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم ، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز - الأرض المستوية - فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم ، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم ، ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان ، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان ، وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154والله عليم بذات الصدور أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها ، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها ، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه .
هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة فقالوا : إن المراد بها المنافقون ، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما وقع لبعضهم من التقصير ، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة ; لأنه جاء على غير العادة ، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين . وهم الذين يخفون في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم ، ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده ، وكذا قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141وليمحص الله الذين آمنوا ويأسا وضعفا للكافرين كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141ويمحق الكافرين وتقدم بيانه ، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وليبتلي لمن خوطبوا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=152ولقد صدقكم الله وعده دون من خوطبوا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قل لو كنتم في بيوتكم وإن هذا هو الأقرب في الذكر ، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن .
ثم إنه قد يقال : إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال
[ ص: 155 ] على الوجه المختار عند الأستاذ الإمام ، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين ، إذ يكون مغزى قولهم : إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله - تعالى - في جوابهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إن الأمر كله لله اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء ، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك ، يعني أن
nindex.php?page=treesubj&link=28783الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده ، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن ، فكيف جعله من ظن الجاهلية ؟ ونقول : إنه - تعالى - قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 : 148 ] وقد قال قبل هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 : 107 ] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إن الأمر كله لله فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين . وقال في سورة يس :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=47وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين [ 36 : 47 ] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن ، ويهيمون في أودية الضلال مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته . وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة
والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة .
وتحرير الكلام في هذه المسألة أنه - تعالى - بين لنا في كتابه ثلاث حقائق ، وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان الأخرى :
( الحقيقة الأولى ) أنه - تعالى - هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء ، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء .
( الحقيقة الثانية ) أن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة ، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137قد خلت من قبلكم سنن [ 3 : 137 ] وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية .
( الحقيقة الثالثة ) أن من جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة ، فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له . والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته
[ ص: 156 ] في الدنيا والآخرة كثيرة جدا . وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئة الله ولا مزيلا لها ، بل مشيئته تابعة لمشيئة الله ومظهر من مظاهرها كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 : 30 ] و [ 81 : 29 ] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه ، وأن نترك عندما يترجح في علمنا أن الترك خير من الفعل ، كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان .
وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى ; لأن المقام يقتضي ذلك - ولكل مقام مقال - ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين لنا خطأه وضلاله كما بين خطأ الذين قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لو شاء الله ما أشركنا في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته - تعالى - في موضع آخر ، فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى ، ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق ، كما ينكر من يغفل عن كونه - تعالى - هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره . وقد جمع - تعالى - بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=79ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا [ 4 : 78 ، 79 ] وقد صرحوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا ، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها ، فأجابهم - تعالى - مبينا لهم الحقيقة الأولى ، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير ، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله ، بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية والاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها ، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه ، بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها ، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة ، كذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد جمعت بين الحقيقتين . الأولى قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إن الأمر كله لله والثانية قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي لما حصل القتل الثابت في علم الله - تعالى - إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها . وبروزهم هذا من أعمالهم الاختيارية : فليس في الآية محال ولا نصر لمذهب على مذهب ، وإنما هي جامعة للحقائق
[ ص: 157 ] مستعلية على جميع المذاهب ، مبطلة لكل من دعوى الجبر المحض والتعطيل المحض ودعوى الذبذبة بينهما . ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28974_29675ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ الْأَمَنَةُ : الْأَمْنُ وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ ، وَالنُّعَاسُ مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَيْنَيْنِ ، قَرَأَ
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ " تَغْشَى " بِالْفَوْقِيَّةِ أَيِ الْأَمَنَةُ وَالْبَاقُونَ " يَغْشَى " بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ النُّعَاسُ . يُقَالُ غَشِيَهُ النُّعَاسُ أَوِ النَّوْمُ كَمَا يُقَالُ رَانَ عَلَيْهِ أَيْ عَرَضَ لَهُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ ، كَمَا يُلْقَى السِّتْرُ عَلَى الشَّيْءِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسِ ، وَأَنَّهُ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ . وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ . قَالَ مَا مِثَالُهُ : اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا النُّعَاسِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنَامُ تَحْتَ تُرْسِهِ كَأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ إِلَّا الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ فَاشْتَدَّ جَزَعُهُمْ . وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=11إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [ 8 : 11 ] وَإِنَّمَا هَذِهِ فِي غَزْوَةِ
بَدْرٍ ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْخَلْقِ بِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّعُ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ هَوْلًا كَبِيرًا وَمُصَابًا عَظِيمًا فَإِنَّهُ يَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ ، وَيَبِيتُ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ فَيُصْبِحُ خَامِلًا ضَعِيفًا ، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ
بَدْرٍ يَتَوَقَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ ، إِذْ بَلَغَهُمْ أَنَّ جَيْشًا يَزِيدُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ سَيُحَارِبُهُمْ غَدًا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَعْظَمُ عُدَّةً فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يَنَامُوا عَلَى بِسَاطِ الْأَرَقِ وَالسُّهَادِ يَضْرِبُونَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ ، وَيُفَكِّرُونَ بِمَا سَيُلَاقُونَ فِي غَدِهِمْ
[ ص: 153 ] مِنَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّعَاسِ ، غَشِيَهُمْ فَنَامُوا وَاثِقِينَ بِاللَّهِ - تَعَالَى - مُطْمَئِنِّينَ لِوَعْدِهِ ، وَأَصْبَحُوا عَلَى هِمَّةٍ وَنَشَاطٍ فِي لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّهِ ، فَالنُّعَاسُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ
بَدْرٍ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ بَلْ قَبْلَهَا ، وَمِثْلُهُ الْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَّرَتْهُمْ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا النُّعَاسُ يَوْمَ
أُحُدٍ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ
أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ وَقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْ كِبَارِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ ، فَكَانُوا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْعَةِ قِسْمَيْنِ : فَقِسْمٌ مِنْهُمْ ذَكَرُوا مَا أَصَابَهُمْ فَعَرَفُوا أَنَّهُ كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ ، وَذَكَرُوا اللَّهَ وَوَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَوَثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ - رَاجِعْ آيَةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [ 3 : 135 ] وَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ كَانُوا قَدْ غُلِبُوا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُمْ فِي غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِيهَا مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَعِصْيَانِ قَائِدِهِمْ وَرَسُولِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً أَوِ الْأَمَنَةَ نُعَاسًا ، حَتَّى يَسْتَرِدُّوا مَا فَقَدُوا مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَرْحِ وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الضَّعْفِ ، وَالنَّوْمُ لِلْمُصَابِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّاحَةِ لِلْأَجْسَامِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ ، أَنْ سَهَّلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ ، وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ عِنْدَمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى ذَلِكَ ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ مُذْعِنِينَ .
قَالَ : وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اقْتِفَاءِ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قِيلَ : فَإِنَّ هَؤُلَاءِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمْ ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَفِيهَا الضُّعَفَاءُ وَالْأَقْوِيَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ ظَنَّهُمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَنُلَامُ أَنْ وَلَّيْنَا وَغُلِبْنَا ؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النَّصْرِ وَعَدَمِهِ شَيْءٌ ، فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِمَّا وَقَعَ يَوْمَ
بَدْرٍ أَنَّ النَّصْرَ وَحَقِّيَّةَ الدِّينِ مُتَلَازِمَانِ وَعَجِبُوا مِمَّا وَقَعَ فِي
أُحُدٍ كَأَنَّهُ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ ، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ ، أَيْ فَإِنَّ نَصْرَ اللَّهِ لِرُسُلِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . أَقُولُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مُخَالِفًا لِهَذَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ لَا أَمْرَ النَّصْرِ وَحْدَهُ ، أَيْ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَجْرِي بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ وَنِظَامِهِ الَّذِي رَبَطَ فِيهِ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ وَمِنْهُ نَصْرُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أَيْ لَوْ كَانَ أَمْرُ
[ ص: 154 ] النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَيْدِينَا لَمَا وَقَعَ فِينَا الْقَتْلُ هَاهُنَا ، يُقَرِّرُونَ رَأْيَهُمْ ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ ، غَافِلِينَ عَنْ تَحْدِيدِ الْآجَالِ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ وَادِعِينَ فِي بُيُوتِكُمْ فِي سِلْمٍ وَأَمَانٍ لَخَرَجَ مِنْ بَيْنِكُمْ مَنِ انْتَهَتْ آجَالُهُمْ ، وَثَبَتَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كَمَا يَثْبُتُ الْمَكْتُوبُ فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَوْرَاقِ إِلَى حَيْثُ يُقْتَلُونَ وَيَسْقُطُونَ مِنَ الْبَرَازِ - الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ - فَتَكُونُ مَصَارِعُهُمْ وَمَضَاجِعُ الْمَوْتِ لَهُمْ ، فَقَتْلُ مَنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ بَلْ لِأَنَّ آجَالَهُمْ قَدْ جَاءَتْ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَاقِبَةَ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُمْ مِنْكُمْ ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ اللَّهُ نُفُوسَكُمْ فَيُظْهِرَ لَكُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ ، وَيُطَهِّرَهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْإِيقَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ فِي هَذَا السِّيَاقِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِالسَّرَائِرِ وَالْوِجْدَانَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلصُّدُورِ حَيْثُ الْقُلُوبُ الْمُنْفَعِلَةُ بِهَا ، وَالْمُنْبَسِطَةُ أَوِ الْمُنْقَبِضَةُ بِتَأْثِيرِهَا ، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهَا فَيَنْخَدِعُونَ لِلشُّعُورِ الْعَارِضِ لَهَا الَّذِي يَرْسَخُ بِالتَّجَارِبِ وَالِابْتِلَاءِ كَمَا انْخَدَعَ الَّذِينَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلْقَوْهُ .
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ جَرَوْا عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَقَالُوا : إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ تُهِمُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذْ كَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورًا فِيمَا أَصَابَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مِنَ التَّقْصِيرِ ، وَكَانَ فِي غَشَيَانِ النُّعَاسِ وَنُزُولِ الْأَمَنَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُونِهِمْ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً ; لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ ، وَهُمُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ فِي اللَّهِ ظَنَّ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ كَظَنِّهِمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ . وَهُمُ الَّذِينَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَكِنْ يُعَارِضُ فَهْمَهُمْ هَذَا كَوْنُ الْخِطَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي بَعْدَهُ ، وَكَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ تَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَأْسًا وَضَعْفًا لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154وَلِيَبْتَلِيَ لِمَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=152وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ دُونَ مَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ ، وَلَكِنْ هَذَا تَفْكِيكٌ وَتَشْوِيشٌ لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ .
ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ فِيمَا تَحْكِيهِ عَنِ الَّذِينَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يُوهِمُ الْمُحَالَ
[ ص: 155 ] عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ ، مِنْ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِذْ يَكُونُ مَغْزَى قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عَيْنَ مَغْزَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي جَوَابِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمَا قُتِلُوا هُنَاكَ ، يَعْنِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28783الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ وَتَصَرُّفِ مَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا عَيْنُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَبِّتُهُ الْقُرْآنُ ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ ؟ وَنَقُولُ : إِنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ بَيَّنَ لَنَا ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [ 6 : 148 ] وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [ 6 : 107 ] وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي ظَنَّتْ مِثْلَ ظَنِّهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مِثْلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُ ظَنًّا لَا يُوثَقُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ الْيَقِينُ . وَقَالَ فِي سُورَةِ يس :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=47وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [ 36 : 47 ] فَقَدْ جَعَلَ تَبَرُّؤَ النَّاسِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ وَاعْتِذَارَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَخَبَّطُونَ فِي دَيَاجِي الظَّنِّ ، وَيَهِيمُونَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مَعَ إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَحُصُولِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ . وَقَدْ نَظَرَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنْ رَآهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ حَتَّى جَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هِيَ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَجَعَلَ الْحُجَّةَ فِيهَا لِلْأَشَاعِرَةِ .
وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ ، وَبَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا فِيهَا وَاحْتَجُّوا بِوَاحِدَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الْأُخْرَى :
( الْحَقِيقَةُ الْأُولَى ) أَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَشِيئَتِهِ يَجْرِي كُلُّ شَيْءٍ ، فَلَا قَاهِرَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ .
( الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ إِنَّمَا يَجْرِي بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ وَمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [ 3 : 137 ] وَفِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْمَشِيئَةُ أَوِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ .
( الْحَقِيقَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدَرِهِ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ذَا عِلْمٍ وَمَشِيئَةٍ وَإِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ ، فَيَعْمَلُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مَا يَرَى بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ وَشُعُورُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ . وَالْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ وَبِعَمَلِهِ تُنَاطُ سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ
[ ص: 156 ] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَهُوَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَا مُزِيلًا لَهَا ، بَلْ مَشِيئَتُهُ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهَا كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ 76 : 30 ] وَ [ 81 : 29 ] وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَشَاءَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ ، وَأَنْ نَتْرُكَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ مِنَ الْفِعْلِ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ .
وَإِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ يَذْكُرُ بَعْضَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَسْكُتُ عَنِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي ذَلِكَ - وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ - وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَجْحَدُ شَيْئًا مِنْهَا جُحُودَهُ وَيُبَيِّنُ لَنَا خَطَأَهُ وَضَلَالَهُ كَمَا بَيَّنَ خَطَأَ الَّذِينَ قَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا فِي مَوْضِعٍ وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ يُنْكِرُ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى ، وَيَكْفُرُ لَهُ نِعْمَةَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي شُكْرِ هَذِهِ الْقُوَى بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ ، كَمَا يُنْكِرُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي يُجْلَبُ بِهَا الْخَيْرُ عِنْدَمَا تُبْطِرُهُ النِّعْمَةُ فَيَنْسُبُهَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ وَيَنْسَى ذِكْرَ رَبِّهِ وَشُكْرَهُ . وَقَدْ جَمَعَ - تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=79مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [ 4 : 78 ، 79 ] وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا ، ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا بِأَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ضَعُفُوا وَأَنْكَرُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا احْتِجَاجًا لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِذَارًا عَنْهَا ، فَأَجَابَهُمْ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لَهُمُ الْحَقِيقَةَ الْأُولَى ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْخَالِقُ لِلْقُوَى وَالْوَاضِعُ لِلسُّنَنِ وَالْمَقَادِيرِ ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ الْفَرْعَ الَّذِي اقْتَضَى الْمَقَامُ بَيَانَهُ مِنْ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَوَاضِعُ السُّنَنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يُوَصِّلُ بِهَا إِلَيْهَا وَالْخَالِقُ لِلْقُوَى الْكَاسِبَةِ لِأَسْبَابِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهَا لِيُشْكَرَ عَلَيْهَا وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الْكَاسِبُ لَهَا وَالْمُنْحَرِفُ عَنْ سُنَنِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ وَيَرُدَّهَا إِلَى التَّوْبَةِ ، كَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ . الْأُولَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَالثَّانِيةُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِبُرُوزِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ الْقِتَالِ الَّتِي يُصْرَعُونَ فِيهَا . وَبُرُوزُهُمْ هَذَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ : فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُحَالٌ وَلَا نَصْرٌ لِمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ جَامِعَةٌ لِلْحَقَائِقِ
[ ص: 157 ] مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ ، مُبْطِلَةٌ لِكُلٍّ مِنْ دَعْوَى الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَالتَّعْطِيلِ الْمَحْضِ وَدَعْوَى الذَّبْذَبَةِ بَيْنَهُمَا . وَيُؤَيِّدُ إِثْبَاتَهَا لِحَقِيقَةِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ وَاخْتِيَارِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ التَّالِيَةُ وَهِيَ :