ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم الأمنة : الأمن وهو ضد الخوف ، والنعاس معروف ، وهو فتور يتقدم النوم ويظهر أثره في العينين ، قرأ حمزة " تغشى " بالفوقية أي الأمنة والباقون " يغشى " بالتحتية أي النعاس . يقال غشيه النعاس أو النوم كما يقال ران عليه أي عرض له فاستولى عليه وغطاه ، كما يلقى الستر على الشيء . وقد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس ، وأنه كان أثناء القتال ، وإنما كان مانعا من الخوف فهو ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر ، ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم . واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال . قال ما مثاله : اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس فقال بعضهم : إن ذلك كان في أثناء الوقعة وأن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم . وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال والكسائي إذ يغشيكم النعاس أمنة منه [ 8 : 11 ] وإنما هذه في غزوة بدر ، وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ، ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا ، وقد كان المؤمنون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا لأسداس ، ويفكرون بما سيلاقون في غدهم [ ص: 153 ] من الشدة والبأس ، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس ، غشيهم فناموا واثقين بالله - تعالى - مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه ، فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها ، ومثله المطر الذي أنزل عليهم عند شدة حاجتهم إليه وقد قرن ذكره به في الآية التي ذكرتهم بعناية الله بهم في ذلك .
وأما النعاس يوم أحد فقد قيل : إنه كان في أثناء الحرب ، وقيل : إنه كان بعدها ، وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم ، فكانوا بعد انتهاء الوقعة قسمين : فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم ، وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم - راجع آية والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [ 3 : 135 ] وعلموا أنه إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة ، فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم ، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا ، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف ، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة ، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب والراحة للأجسام والتسليم للقضاء ، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم ، وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك ، فاستجابوا له مذعنين .
قال : واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله - تعالى - : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها من المنافقين كما قيل : فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم ، وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره . وقد بين ظنهم بقوله : يقولون هل لنا من الأمر من شيء فنلام أن ولينا وغلبنا ؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء ، فإنهم فهموا مما وقع يوم بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في أحد كأنه مناف لحقيقة الدين ، وهذا خطأ عظيم ، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين . أقول وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا .
قل إن الأمر كله لله لا أمر النصر وحده ، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته - تعالى - في خلقه ونظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا أي لو كان أمر [ ص: 154 ] النصر والظفر بأيدينا لما وقع فينا القتل هاهنا ، يقررون رأيهم ، ويستدلون عليه بما وقع لهم ، غافلين عن تحديد الآجال ; ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم ، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز - الأرض المستوية - فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم ، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله .
وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم ، ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان ، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان ، وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق والله عليم بذات الصدور أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها ، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها ، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه .
هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة فقالوا : إن المراد بها المنافقون ، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما وقع لبعضهم من التقصير ، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة ; لأنه جاء على غير العادة ، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين . وهم الذين يخفون في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم ، ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده ، وكذا قوله - تعالى - : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال : وليمحص الله الذين آمنوا ويأسا وضعفا للكافرين كما قال : ويمحق الكافرين وتقدم بيانه ، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله وليبتلي لمن خوطبوا بقوله : ولقد صدقكم الله وعده دون من خوطبوا بقوله : قل لو كنتم في بيوتكم وإن هذا هو الأقرب في الذكر ، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن .
ثم إنه قد يقال : إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال [ ص: 155 ] على الوجه المختار عند الأستاذ الإمام ، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين ، إذ يكون مغزى قولهم : إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله - تعالى - في جوابهم : إن الأمر كله لله اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء ، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك ، يعني أن ، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن ، فكيف جعله من ظن الجاهلية ؟ ونقول : إنه - تعالى - قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله : الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 : 148 ] وقد قال قبل هذه الآية : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 : 107 ] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم : إن الأمر كله لله فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين . وقال في سورة يس : وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين [ 36 : 47 ] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن ، ويهيمون في أودية الضلال مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته . وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة الفخر الرازي والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة .
وتحرير الكلام في هذه المسألة أنه - تعالى - بين لنا في كتابه ثلاث حقائق ، وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان الأخرى :
( الحقيقة الأولى ) أنه - تعالى - هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء ، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء .
( الحقيقة الثانية ) أن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة ، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير قد خلت من قبلكم سنن [ 3 : 137 ] وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية .
( الحقيقة الثالثة ) أن من جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة ، فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له . والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته [ ص: 156 ] في الدنيا والآخرة كثيرة جدا . وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئة الله ولا مزيلا لها ، بل مشيئته تابعة لمشيئة الله ومظهر من مظاهرها كما قال : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 : 30 ] و [ 81 : 29 ] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه ، وأن نترك عندما يترجح في علمنا أن الترك خير من الفعل ، كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان .
وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى ; لأن المقام يقتضي ذلك - ولكل مقام مقال - ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين لنا خطأه وضلاله كما بين خطأ الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته - تعالى - في موضع آخر ، فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى ، ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق ، كما ينكر من يغفل عن كونه - تعالى - هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره . وقد جمع - تعالى - بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا [ 4 : 78 ، 79 ] وقد صرحوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا ، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها ، فأجابهم - تعالى - مبينا لهم الحقيقة الأولى ، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير ، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله ، بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية والاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها ، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه ، بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها ، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة ، كذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد جمعت بين الحقيقتين . الأولى قوله - تعالى - : إن الأمر كله لله والثانية قوله : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي لما حصل القتل الثابت في علم الله - تعالى - إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها . وبروزهم هذا من أعمالهم الاختيارية : فليس في الآية محال ولا نصر لمذهب على مذهب ، وإنما هي جامعة للحقائق [ ص: 157 ] مستعلية على جميع المذاهب ، مبطلة لكل من دعوى الجبر المحض والتعطيل المحض ودعوى الذبذبة بينهما . ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي :