[ ص: 159 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين )
قلنا :إن الكلام من أول سورة في القرآن وتفصيل أحوال الناس في الإيمان به ، وعدمه ، وهذه الآية دليل على عدم الخروج عن هذا الموضوع في كل ما تقدم ، فالآيات متصل بعضها ببعض كحبات من الجوهر نظمت في سلك واحد ، فإنه بعد ما ذكر المتقين الذين يهتدون بالقرآن وعلاماتهم ، وبين خصائصهم وصفاتهم ، وذكر الجاحدين المعاندين ، وما هم عليه من العمى عن جلية الحق المبين وما رزئوا به من الصمم المعنوي حتى لا يسمعوا الحجج والبراهين ، وما أصيبوا به من البكم بالنسبة لقول الحق أو سؤال المرشدين ، ثم ذكر المذبذبين بين ذلك فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وذكر فرقهم وأصنافهم ، وبين خلائقهم وأوصافهم ، وضرب لهم الأمثال ، ونضلهم في ميدان الجدال بسهام الحجج النافذة وسيوف البراهين القاطعة ، بعد هذا كله تحداهم بالكتاب الذي يدعو إليه ، ويناضل عنه ويكافح دونه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه ) فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23nindex.php?page=treesubj&link=28973وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) أي يا أيها الناس عليكم - بعد أن تنسلوا من مضايق الوساوس ، وتتسللوا من مآزق الهواجس وتنزعوا ما طوقكم به التقليد من القلائد ، وتكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد - أن تهرعوا إلى الحق فتطلبوه ببرهانه ، وأن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربانه ، فإن خفي عليكم الحق بذاته ، فهذه آية من أظهر آياته ، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها ، وتضارعها في أسلوبها وبلاغتها - وأنتم فرسان البلاغة ، وعصركم أرقى عصور الفصاحة ، وقد اشتهر كثيرون منكم بالسبق في هذا الميدان ولم يكن
محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن يسابقكم من قبل هذا البرهان ؛ لأنه لم يؤت هذا الاستعداد بنفسه ، ولم يتمرن عليه أو يتكلفه لمباراة أهله - فاعلموا أن ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلا بوحي إلهي ، وإمداد سماوي ، لم يسم عقله إلى علمه ، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه .
[ ص: 160 ] وعبر عن كون الريب بــ ( ( إن ) ) للإيذان بأن من شأن هذا التنزيل أن لا يرتاب فيه ؛ لأن الحق فيه ظاهر بذاته ، يتلألأ نوره في كل آية من آياته ، ولكن :
إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
والتنزيل : من مادة النزول كالإنزال وتقدم تفسيره ، إلا أن صيغة ( ( التفعيل ) ) الدالة على التدريج أو التكثير تفيد أن القرآن نزل نجوما متفرقة وهو الواقع ، وصيغة أنزل لا تنافيه .
وقوله تعالى : ( من مثله ) فيه وجهان :
( أحدهما ) أن الضمير في ( ( مثله ) ) للقرآن المعبر عنه بقوله : ( مما نزلنا ) .
( والثاني ) أنه لعبدنا ، قال شيخنا : وهو أرجح ، بدليل " من " الداخلة على " مثله " الدالة على النشوء ، أي فإن كان أحد ممن يماثل الرسول بالأمية يقدر على الإتيان بسورة فليفعل .
قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وادعوا شهداءكم ) الذين يشهدون لكم أنكم أتيتم بسورة من مثله ، وهؤلاء الشهداء هم غير الله تعالى بالضرورة ، أي ادعوا كل من تعتمدون عليه ليشهد لكم ( من دون الله ) أو ادعوا كل أحد غير الله تعالى ليؤيد دعواكم ، كما أيد الله تعالى دعوة عبده
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وانظروا هل يغنيكم دعاؤكم شيئا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23إن كنتم صادقين ) في دعواكم ( أن عندكم فيه ريبا ، وإنما يصدق المرتاب في ريبه إذا خفيت الحجة ، وغلبت الشبهة ، وكان جادا في النظر ، فهو يقول : إن كنتم صدقتم في أنكم مرتابون فلديكم ما يمحص الحق فجدوا في الفكر ، ولا تتوانوا في النظر ، وتدبروا هذا الكتاب ، وها هو ذا معروض عليكم ، وائتوا بسورة واحدة من مثل ما جاء به هذا النبي الأمي ، فإذا أمكن لكم ذلك فلخاطر الريب أن يمر بنفوسكم ، وإلا فما وجه إعراضكم عن دعوته ، وإبطائكم عن تلبيته ؟ ) .
( أقول ) : هذا محصل سياق الأستاذ في الدرس ، وقد قرأه بعد كتابتنا له ، وكتب العبارة الأخيرة لإيضاحه بخطه بعد طبع التفسير في المنار ، وترجيحه كون الضمير في مثاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاص بهذه الآية ، وهو لا ينافي العجز عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن من غير الأميين ، ورجح الجمهور الأول ، لموافقة الآيات الأخرى في هذا التحدي .
وأول ما نزل في هذا المعنى : قوله تعالى في سورة الإسراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( 17 : 88 )
[ ص: 161 ] ثم نزل بعدها آية
يونس (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) ( 10 : 38 ) ثم آية
هود (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أم يقولون افتراه قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين 11 : 13 ) وهذه السور الثلاث نزلت
بمكة متتابعات كما رواه العلماء لهذا الشأن ، ولكن في رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن سورة
يونس مدنية ، والرواية الأخرى هي الموافقة لقول الجمهور ولأسلوبها فإنه أسلوب السور المكية .
وقال بعض علماء الكلام : إن الله تعالى تحدى الناس أولا بالقرآن في جملته في آية الإسراء ، ثم تحداهم بعشر سور مثله في آية
هود ، ثم تحداهم بسورة واحدة مثله في آية
يونس ، وكل ذلك
بمكة ، ثم بسورة من مثله في آية البقرة
بالمدينة ، وهذا ترتيب معقول لو ساعد عليه تاريخ النزول . والظاهر أن
nindex.php?page=treesubj&link=32448_20759التحدي في سورتي يونس وهود خاص ببعض أنواع الإعجاز ، وهو ما يتعلق بالأخبار كقصص الرسل مع أقوامهم وهو من أخبار الغيب الماضية التي لم يكن لمن أنزل عليه القرآن علم بها ولا قومه كما قال تعالى عقب قصة
نوح من سورة هود : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=49تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ( 11 : 49 ) كما قال في سورة القصص عقب قصة
موسى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=44وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ) ( 28 : 44 ) إلى آخر الآية 46 ، وكما قال في سورة آل عمران عقب قصة
مريم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=44ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) ( 3 : 44 ) الآية .
ولعل
nindex.php?page=treesubj&link=28741_20759وجه التحدي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة ، هو إرادة نوع خاص من أنواع الإعجاز وهو الإتيان بالخبر الواحد بأساليب متعددة متساوية في البلاغة وإزالة شبهة تخطر بالبال ، بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والأسلوب ، وهي أن الجملة أو السورة المشتملة على القصة يمكن التعبير عنها في اللغة بعبارات مختلفة تؤدي المعنى ، ولا بد أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان ، مع السلامة من كل عيب لفظي أو معنوي يحل بالفهم أو التأثير المطلوب ، فمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها ؛ لأن تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك . ومن الأمثال التي وضحوا بها هذه الشبهة قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=28وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) قالوا إن هذه الجملة تحتمل بالتقديم والتأخير بضعة تراكيب أفصحها وأبلغها وأسلمها من الضعف والإبهام تركيب الآية ، ولكن القرآن عبر عن بعض المعاني وبعض القصص بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطول ، والتحدي بمثله لا يظهر في قصة مخترعة مفتراة بل لا بد من التعدد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد والقصة الواحدة بأساليب مختلفة وتراكيب متعددة ، كما نرى في سورة فتحداهم بعشر سور مثله في هدايتها وبلاغتها وأسلوبها واشتمالها على الحكم والعبر والأسوة الحسنة المعينة على التربية والتهذيب كما هو شأن القرآن في قصصه ،
[ ص: 162 ] كأنه يقول أدع لكم ما في سور القصص من الأخبار عن الغيب ، وأتحداكم أنتم وسائر الذين تستطيعون الاستعانة بهم على الإتيان بعشر سور مثل سور القرآن في قصصها ، مع السماح لكم بجعلها قصصا مفتراة من حيث موضوعها ، فإن جئتم به مثل سوره القصصية في سائر مزاياها اللفظية والمعنوية ، فأنا أعترف لكم بدحض حجتي عليكم .
وأما اكتفاؤه في سورة يونس بعدها بالتحدي بسورة واحدة في مقام الرد على قولهم " افتراه " فلأنه لم يقيده بكونها مفتراة ، لا من باب التخفيف عليهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر ، فيدخل فيه خبر الغيب والتزام الصدق .
فعلم من هذا التفصيل أن
nindex.php?page=treesubj&link=28741_20759_28899التحدي بإعجاز القرآن لذاته في جملته ، والتحدي ببعض أنواع إعجازه في عشر سور مثله ، وبسورة مثله ، كلاهما ثابت في السور المكية قبل نزول آية البقرة وسورتها بعد الهجرة في المدينة المنورة ، ولما كان كفار
المدينة الذين يوجه إليهم الاحتجاج أولا وبالذات هم
اليهود - وهم يعدون أخبار الرسل في القرآن غير دالة على علم الغيب - تحداهم بسورة من مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أميته ، ليشمل ذلك وغيره مع بقاء التحدي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه غير مقيد بكونه من مثل
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي بحث وجوه هذا الإعجاز قريبا .
[ ص: 159 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )
قُلْنَا :إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ ، وَعَدَمِهِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23nindex.php?page=treesubj&link=28973وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا ، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ .
[ ص: 160 ] وَعَبَّرَ عَنْ كَوْنِ الرَّيْبِ بِــ ( ( إِنَّ ) ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ لَا يُرْتَابَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ ظَاهِرٌ بِذَاتِهِ ، يَتَلَأْلَأُ نُورُهُ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ ، وَلَكِنْ :
إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ
وَالتَّنْزِيلُ : مِنْ مَادَّةِ النُّزُولِ كَالْإِنْزَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ ، إِلَّا أَنَّ صِيغَةَ ( ( التَّفْعِيلِ ) ) الدَّالَّةَ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ تُفِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً وَهُوَ الْوَاقِعُ ، وَصِيغَةُ أَنْزَلَ لَا تُنَافِيهِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( مِنْ مِثْلِهِ ) فِيهِ وَجْهَانِ :
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ( ( مِثْلِهِ ) ) لِلْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : ( مِمَّا نَزَّلْنَا ) .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ لِعَبْدِنَا ، قَالَ شَيْخُنَا : وَهُوَ أَرْجَحُ ، بِدَلِيلِ " مِنَ " الدَّاخِلَةِ عَلَى " مِثْلِهِ " الدَّالَّةِ عَلَى النُّشُوءِ ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَاثِلُ الرَّسُولَ بِالْأُمِّيَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ فَلْيَفْعَلْ .
قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ ، وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ ، أَيِ ادْعُوا كُلَّ مَنْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِيَشْهَدَ لَكُمْ ( مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أَوِ ادْعُوَا كُلَّ أَحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِيُؤَيِّدَ دَعْوَاكُمْ ، كَمَا أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَةَ عَبْدِهِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَانْظُرُوا هَلْ يُغْنِيكُمْ دُعَاؤُكُمْ شَيْئًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فِي دَعْوَاكُمْ ( أَنَّ عِنْدَكُمْ فِيهِ رَيْبًا ، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ الْمُرْتَابُ فِي رَيْبِهِ إِذَا خَفِيَتِ الْحُجَّةُ ، وَغَلَبَتِ الشُّبْهَةُ ، وَكَانَ جَادًّا فِي النَّظَرِ ، فَهُوَ يَقُولُ : إِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فِي أَنَّكُمْ مُرْتَابُونَ فَلَدَيْكُمْ مَا يُمَحِّصُ الْحَقَّ فَجِدُّوا فِي الْفِكْرِ ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي النَّظَرِ ، وَتَدَبَّرُوا هَذَا الْكِتَابَ ، وَهَا هُوَ ذَا مَعْرُوضٌ عَلَيْكُمْ ، وَائْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَكُمْ ذَلِكَ فَلِخَاطِرِ الرَّيْبِ أَنْ يَمُرَّ بِنُفُوسِكُمْ ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ إِعْرَاضِكُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ تَلْبِيَتِهِ ؟ ) .
( أَقُولُ ) : هَذَا مُحَصِّلُ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْدَ كِتَابَتِنَا لَهُ ، وَكَتَبَ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ لِإِيضَاحِهِ بِخَطِّهِ بَعْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ فِي الْمَنَارِ ، وَتَرْجِيحُهُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي مِثَالِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعَجْزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ ، لِمُوَافَقَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي هَذَا التَّحَدِّي .
وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( 17 : 88 )
[ ص: 161 ] ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا آيَةُ
يُونُسَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( 10 : 38 ) ثُمَّ آيَةُ
هُودٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 11 : 13 ) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ
بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ
يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ
هُودٍ ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ
يُونُسَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ
بِمَكَّةَ ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ
بِالْمَدِينَةِ ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32448_20759التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ
نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=49تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) ( 11 : 49 ) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ
مُوسَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=44وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ) ( 28 : 44 ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 46 ، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ
مَرْيَمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=44ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) ( 3 : 44 ) الْآيَةَ .
وَلَعَلَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28741_20759وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ . وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=28وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ الْآيَةِ ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ ،
[ ص: 162 ] كَأَنَّهُ يَقُولُ أَدَعُ لَكُمْ مَا فِي سُورِ الْقَصَصِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ ، وَأَتَحَدَّاكُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرَ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهَا ، مَعَ السَّمَاحِ لَكُمْ بِجَعْلِهَا قَصَصًا مُفْتَرَاةً مِنْ حَيْثُ مَوْضُوعُهَا ، فَإِنْ جِئْتُمْ بِهِ مِثْلَ سُوَرِهِ الْقَصَصِيَّةِ فِي سَائِرِ مَزَايَاهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ ، فَأَنَا أَعْتَرِفُ لَكُمْ بِدَحْضِ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ .
وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَهَا بِالتَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ " افْتَرَاهُ " فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا مُفْتَرَاةً ، لَا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاحِدَةِ بَعْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْعَشْرِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الْغَيْبِ وَالْتِزَامُ الصِّدْقِ .
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28741_20759_28899التَّحَدِّيَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِذَاتِهِ فِي جُمْلَتِهِ ، وَالتَّحَدِّيَ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ فِي عَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، كِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَتِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ
الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاحْتِجَاجُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُمُ
الْيَهُودُ - وَهُمْ يَعُدُّونَ أَخْبَارَ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمِّيَّتِهِ ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مَعَ بَقَاءِ التَّحَدِّي الْمُطْلَقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ مِنْ مِثْلِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَسَيَأْتِي بَحْثُ وُجُوهِ هَذَا الْإِعْجَازِ قَرِيبًا .