( العاشر ) قال من محرمات الطعام ما ذبح على النصب الراغب في مفرداته : نصب الشيء : وضعه وضعا ناتئا ; كنصب الرمح والبناء والحجر ، والنصيب الحجارة تنصب على الشيء ، وجمعه نصائب ونصب بضمتين ، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها ، قال : كأنهم إلى نصب يوفضون ( 70 : 43 ) . قال : وما ذبح على النصب ( 5 : 3 ) وقد يقال في جمعه : أنصاب . قال : والأنصاب والأزلام ( 5 : 90 ) . اهـ . وقال في اللسان : والنصب ( بالفتح ) والنصب ( بالضم ) والنصب ( بضمتين ) : الداء والبلاء والشر ، وفي التنزيل : مسني الشيطان بنصب وعذاب ( 38 : 41 ) . والنصيبة والنصب بضمتين : كل ما نصب فجعل علما . وقيل : النصب جمع نصيبة كسفينة وسفن ، وصحيفة وصحف . الليث : النصب : جماعة النصيبة ، وهي علامة تنصب للقوم ، والنصب بالفتح والنصب بضمتين : العلم المنصوب ، وفي التنزيل : كأنهم إلى نصب يوفضون ( 70 : 43 ) قرئ بهما جميعا ، وقيل : النصب بالفتح : الغاية ، والأول أصح ، قال أبو إسحاق : من قرأ " إلى نصب " بالفتح ; فمعناه : إلى علم منصوب يسبقون إليه ، ومن قرأ " إلى نصب " بضمتين ; فمعناه : إلى أصنام ; كقوله وما ذبح على النصب ونحو ذلك قال الفراء ، قال : والنصب بالفتح واحد ، وهو مصدر ، وجمعه الأنصاب ، والينصوب : علم ينصب في الفلاة . والنصب والنصب : كل ما عبد من دون الله تعالى ، والجمع : أنصاب . الجوهري : والنصب بالفتح : ما نصب ، فعبد من دون الله تعالى ، وكذلك النصب بالضم ، وقد يحرك مثل عسر . اهـ .
وقال : والنصب : الأوثان من الحجارة ، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض ، فكان المشركون يقربون لها ، وليست بأصنام ، وكان ابن جرير يقول في صفته ، وذكر سنده إليه : النصب ليست بأصنام ، الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة [ ص: 122 ] تنصب ثلاثمائة وستون حجرا ، منهم من يقول الثلاثمائة منها ابن جريج بخزاعة ، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت ، وشرحوا اللحم ، وجعلوه على الحجارة . قال المسلمون : يا رسول الله ، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ، فنحن أحق أن نعظمه ، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكره ذلك فأنزل الله : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ( 22 : 37 ) ثم أيد قول ابن جرير بما رواه عن غيره من المفسرين ، ومنه قول ابن جريج مجاهد : النصب : حجارة حول الكعبة تذبح عليها أهل الجاهلية ، ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أحب إليهم منها . وقول قتادة : والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك . وقول : أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها . ابن عباس
فعلم من هذه النصوص أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله ، من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله - تعالى - ولكنه أخص منه ، فما أهل به لغير الله قد يكون لصنم من الأصنام بعيدا عنه وعن النصب ، وما ذبح على النصب لا بد أن يذبح على تلك الحجارة أو عندها وينشر لحمه عليها .
فعلم من هذا ومما قبله أن المحرمات عشرة بالتفصيل ، وأربعة بالإجمال ، وكما خص المنخنقة وما عطف عليها من الميتات بالذكر بسبب خاص معروف ; لئلا يغتر أحد باستباحة بعض أهل الجاهلية لها - خص ما ذبح على النصب بالذكر لإزالة وهم من توهم أنه قد يحل بقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه ، وحسبك أنه من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها .
ثم عطف على محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من خرافاتهم ; فقال : وأن تستقسموا بالأزلام أي وحرم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم - أو ترجيح قسم من مطالبكم على قسم - بالأزلام كما تفعل الجاهلية ، وجعل بعضهم هذا من محرمات الطعام كما يأتي ، والزلم - محركة - كصرد ; أي بضم ففتح : قدح لا ريش عليه وسهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية ، جمعه أزلام ، قاله في القاموس ، والمراد أنها قطع من الخشب بهيئة السهم إلا أنها لا يلصق عليها الريش الذي يلصق على السهم الذي يرمى به ; ليحمله الهواء ، ولا يركب فيها النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره ، قال بعضهم : كانت الأزلام ثلاثة مكتوب على أحدها : " أمرني ربي " وعلى الثاني : " نهاني ربي " والثالث غفل ليس عليه شيء ، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو غير ذلك ، أجال هذه الأزلام ، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه " أمرني ربي " مضى لما أراد ، وإن خرج المكتوب عليه " نهاني ربي " أمسك عن ذلك ، ولم يمض فيه ، وإن خرج ( الغفل الذي لا كتابة عليه ) : أعاد الاستقسام .
وروى عن ابن جرير الحسن ، قال : كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا [ ص: 123 ] يعمدون إلى قداح ثلاثة ، على واحد منها مكتوب " اؤمرني " وعلى الآخر " انهني " ويتركون الآخر محللا بينهما ليس عليه شيء ، ثم يجيلونها فإن خرج الذي عليه " اؤمرني " مضوا لأمرهم ، وإن خرج الذي عليه " انهني " كفوا ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها . وروي عن آخرين في الكتابة كلمات أخرى بمعنى ما ذكرنا ، وعن أنها كانت تكون عند الكهان ; فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو يحدث أمرا أتى الكاهن فأعطاه شيئا فضرب له بها ، فإن خرج شيء يعجبه منها أمره ففعل ، وإن خرج شيء يكرهه نهاه فانتهى ، كما ضرب السدي عبد المطلب على زمزم ، وعلى عبد الله والإبل .
وعن قال : كانت هبل أعظم أصنام ابن إسحاق قريش بمكة ، وكانت في بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة ، وكانت عند هبل سبعة أقداح كل قدح منها فيه كتاب ، أي : ( كتابة شيء ) وبينه بقوله : قدح فيه العقل ( أي دية القتيل ) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ؟ ضربوا بالقداح السبعة ، وقدح فيه " نعم " للأمر إذا أرادوه ، يضرب به ( أي : يجال في سائر القداح ) فإن خرج قدح " نعم " عملوا به ، أو قدح فيه " لا " فإذا أرادوا أمرا ضربوا في القداح ، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر ، وقدح فيه " منكم " وقدح فيه " ملصق " وقدح فيه " من غيركم " وقدح فيه المياه ; إذا أرادوا أن يخرجوا للماء ضربوا بالقداح وفيها تلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به . وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما ، أو أن ينكحوا منكحا ، أو أن يدفنوا ميتا ، أو يشكوا في نسب واحد منهم ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وبجزور - بعير يجزر - فأعطاها صاحب القداح الذي يضربها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا ، هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا وكذا ، فأخرج الحق فيه ، ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب . فيضرب فإن خرج عليه " من غيركم " كان حليفا ، وإن خرج عليه " ملصق " كان على ميراثه منهم ، لا نسب له ولا حلف ، وإن خرج فيه سوى هذا مما يعملون به : " نعم " عملوا به ، وإن خرج " لا " أخروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح . اهـ .
والظاهر من اختلاف الروايات أنه كان يكون عند بعض الكهنة أزلام غير السبعة التي عند هبل ، التي يفصل فيها في كل الأمور المهمة ، وأنهم كانوا يتعرفون قسمتهم وحظهم ، أو يرجحون مطالبهم بغير ذلك من اللعب الذي يسكن به اضطراب نفوس أصحاب الأوهام ، وفسر مجاهد الأزلام : بكعاب فارس والروم التي يقمرون بها ، وسهام العرب ، وقال الأزهري : الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها : أمر ونهي ، وافعل ولا تفعل ، وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت ، فإذا أراد أحد سفرا [ ص: 124 ] أو نكاحا أتى السادن وقال : أخرج لي زلما ، فيخرجه وينظر إليه . إلخ . قال : وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه ، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما . اهـ . وهذا محل الشاهد ، وقال بعضهم : إن الأزلام قداح الميسر . وقال بعضهم : إنها النرد والشطرنج . والجمهور على القول الأول ، وقد بينا سهام الميسر في تفسير يسألونك عن الخمر والميسر ( 2 : 219 ) وهي عشرة ، لها أسماء لسبعة ، منها أنصبة متفاوتة ، فليراجعه من شاء ( ص 258 ج2 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ) . واللعب بالنرد ونحوه ليس استقساما ، وقد يستقسم به
أما سبب تحريم الاستقسام فقد قيل : إنه ما فيه من تعظيم الأصنام ، ويرده أن التحريم عام يشمل ما كان عند الأصنام وما لم يكن ; كالزلمين اللذين يحملهما الرجل معه في رحله ، وقيل : لأنه طلب لعلم الغيب الذي استأثر الله به ، ويرده أنه لم يكن يطلب بها علم الغيب في مثل الأمر والنهي ، على أن جعل هذا محرما وعلة للتحريم ، غير ظاهر ، وصرح بعضهم برده ، وقيل : لأن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم " أمرني ربي " الله عز وجل ، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم ، ويرد بأن هذا رواية عن بعض الأزلام لا عن كلها .
والصواب أن هذا قد حرم لأنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة ، ويترك ما يترك عن غير بينة ولا بصيرة ، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة ، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم ، فلا غرو أن يبطل ذلك دين العقل والبصيرة والبرهان ، كما أبطل وسائر خرافات الجاهلية ، ولا يليق ذلك كله إلا بجهل الوثنية وأوهامها . التطير والكهانة والعيافة والعرافة
ومما يجب الاعتبار به في هذا المقام أن صغار العقول كبار الأوهام في كل زمان ومكان ، وعلى عهد كل دين من الأديان ، يستنون بسنة مشركي الجاهلية ، ولا تطمئن قلوبهم إلا بخرافات الوثنية ، فإن لم يستقسموا بالأزلام استقسموا بما هو مثلها وما في معناها ، ولكنهم يسمون عملهم هذا اسما حسنا ، كما يفعل بعض المسلمين حتى عصرنا هذا بالاستقسام بالسبح وغيرها ، ويسمونه استخارة وما هو من الاستخارة التي ورد الإذن بها في شيء ، وقد يسمونه أخذ الفأل ، وذلك أنهم يقتطعون طائفة من حب السبحة ويحولونه حبة بعد أخرى ، يقولون " افعل " على واحدة ، و " لا تفعل " على أخرى ، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة ، وبعضهم يقول كلمات أخرى بهذا المعنى ، تختلف كلماتهم كما كانت تختلف كلمات سلفهم من الجاهلية ، والمعنى والمقصد واحد ، ومنهم من يستقسم بورق اللعب الذي يقامرون به أحيانا ، ومنهم من يأخذ الفأل بفصوص النرد - الطاولة - وأمثاله من أدوات اللعب ، وفصوص النرد هذه هي كعاب الفرس التي أدخلها مجاهد في الأزلام ، وجعلها كسهام العرب في التحريم سواء ، وقد ورد في الأحاديث ما يؤيد تحريمها ، ومنهم من يستقسم [ ص: 125 ] ، أو يأخذ الفأل أو الاستخارة - كما يقولون - بالقرآن العظيم ; فيصبغون عملهم بصبغة الدين ، وهو يتوقف على النص ; لأن الزيادة في الدين كالنقص منه ، وهل يحل عمل الجاهلية بتغيير صورته ؟ ويلبس الباطل ثوب الحق فيصير حقا ؟ اللهم إنك أنزلت القرآن هدى للمتقين ، فترك قوم الاهتداء ، وحرموه على أنفسهم ، واكتفوا مما يدعون من الإيمان به والتعظيم له ، بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام ، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد أو جام ، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبهم في الآخرة ، فقد كفانا ما أصاب الأمة بضلالهم في هذه الحياة العاجلة ، اللهم واجعل لنا فرجا ومخرجا من فتنتهم وفتنة من تركوا الدين كله استنكافا من خرافاتهم وخرافات أمثالهم .
وليعلم القارئ أن العادة والإلف يجعلان البدعة معروفة كالسنة ، والسنة منكرة كالبدعة ، فما حاول أحد إماتة بدعة أو إحياء سنة ، إلا وأنكر الناس عليه عمله باسم الدين ، ولا طال العهد على بدعة ، إلا وتأولوا لفاعليها وانتحلوا لها مسوغا من الدين ، ومن ذلك زعم بعضهم أن ما يفعله بعض الناس من الاستقسام بالسبح وغيرها يصح أن يعد من الفأل الحسن . وقد روى عن ابن ماجه ، أبي هريرة والحاكم عن عائشة ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما كان يعجبه الفأل الحسن ، وما هو منه ، وهو أن يسمع الإنسان اسما حسنا أو كلمة خير ، فينشرح لها صدره وينشط فيما أخذ فيه ، وقيل : يكون الفأل في الحسن والرديء . والطيرة بوزن عنبة ما يتشاءم به من الفأل الرديء ، هذه عبارة القاموس ، وهي من الطائر ; إذ كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بحركة الطير ذات اليمين وذات الشمال حتى صار زجر الطير عندهم صناعة ، قال في القاموس : والطائر الدماغ ، وما تيمنت به أو تشاءمت . اهـ . وقوله صلى الله عليه وسلم : " الفأل ضد الطيرة التي نفتها وأبطلتها الأحاديث الصحيحة " في حديث الصحيحين يبطل حسن الطيرة ورديئها ; لأنه خرافة مبنية على الاستدلال على الحسن والقبح بما لا يدل عليه عقلا ولا شرعا ولا طبعا ، لا فرق في التطير بين أن يكون بحركة الطير أو بغيرها من الأقوال والأفعال . لا طيرة
وهذه الطيرة قديمة العهد في العرب ، وقد أبطلها الله - تعالى - قبل الإسلام على لسان نبيه صالح عليه السلام ، كما بين لنا ذلك في مجادلته لقومه ( ثمود ) في سورة النمل ، قال تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ( 27 : 47 ) أو غيرها شر من التطير الذي يقع للإنسان من غير سعي إليه ، والفرق واضح بين الخرافات والأوهام التي تؤثر في نفس الإنسان عرضا لقلة عقله ، أو تأثره بأحوال من تربى بينهم ، وبين ما يسعى إليه منها ، ويستثيره باختياره ، ويجعله حاكما على قلبه ، فيعمل [ ص: 126 ] بأمره ونهيه . وإذا صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تساهل مع أصحابه ، وأقرهم على التفاؤل بالكلمة الطيبة ، ولم يعد هذا من الطيرة ; لعلمه بأنه أزال تلك العقائد الوهمية الباطلة من نفوسهم ، فلم تبق حاجة للتشديد عليهم فيما ينشرح له الصدر - فهذا التساهل لا يدل على جواز استقسام الجاهلية المحرم قطعا بنص القرآن الصريح ; لتغير المستقسم به ، فإن تحريم الاستقسام ليست علته أنه بالأزلام ، بل إنه من الأباطيل والأوهام ، وأي فرق بين خشبات الأزلام وخشبات السبحة ، أو غير ذلك من حبها ؟ والاستقسام بالأزلام
وأغرب من ذلك جعل ; إذ استحله بعض الدجالين بإطلاق اسمها عليه ، وجعله بعضهم من قبيل القرعة المشروعة ، وكل هذا من قياس الشيطان ، والحكم في دين الله بالهوى دون بينة ولا سلطان . الاستقسام من قبيل الاستخارة
بيان ذلك أن ، وآيات القرآن الكثيرة ناطقة بذلك : الإسلام دين البصيرة والعقل والبينة والبرهان قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 2 : 111 ) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ( 8 : 42 ) قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( 6 : 148 ) إلخ . وإرشاد القرآن ، وهديه في الحث على الأخذ بالدليل والبرهان عام يشمل جميع شئون الإنسان ، ولما كانت الدلائل والبينات تتعارض في بعض الأمور ، والترجيح بينها يتعذر في بعض الأحيان ، فيريد الإنسان الشيء فلا يستبين له : آلإقدام عليه خير أم تركه ؟ فيقع في الحيرة - جعلت له السنة مخرجا من ذلك بالاستخارة حتى لا يضطرب عليه أمره ولا تطول غمته ، وذلك المخرج هو الاستخارة ، وهي عبارة عن التوجه إلى الله ، عز وجل ، والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل الحيرة ويهيئ وييسر للمستخير الخير ، وجدير هذا بأن يشرح الصدر لما هو خير الأمرين ، وهذا هو اللائق بأهل التوحيد ، أن يأخذوا بالبينة والدليل الذي جعله الله - تعالى - مبينا للخير والحق ، فإن اشتبه على أحدهم أمر التجأ إلى الله تعالى ، فإذا شرح صدره لشيء أمضاه وخرج به من حيرته ، والقرعة تشبه ذلك ، بل أمرها أظهر ، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا ، كالقسمة بين اثنين ، فإنه لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة ، وعمرو الأخرى ; فالقرعة طريقة حسنة عادلة ، وقس على هذا ما يشبهه .
والذي صح في ما رواه الجماعة ( الاستخارة أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربع ) من حديث ، قال : جابر بن عبد الله . وهذا لفظ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ؛ فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني [ ص: 127 ] ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به قال : ويسمي حاجته ، والخلاف في ألفاظ رواياته قليل ; كأرضني به من الإرضاء ، ورضني من الترضية . البخاري
ليس في هذه الرواية التي رواها الجماعة إشارة ما إلى معنى يقرب من معنى الاستقسام ولا التفاؤل ، بل هي أمر بعبادة ودعاء عند الاهتمام بالأمر والعزم عليه حتى لا ينسى المؤمن ربه - تعالى - عند اهتمامه بالشأن من شئون الدنيا ، وما بيناه من في بدء الكلام عنها مبني على ما اشتهر من معناها عند الجمهور ، ولا أعرف له أصلا صحيحا في السنة ، ولكن روى فقه الاستخارة وحكمتها ، في عمل يوم وليلة ، ابن السني والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس : إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخيرة فيه ، قال النووي فيه : إنه يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره ، لكنه لا يقدم على ما كان له فيه هوى قبل الاستخارة ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد ما عزى الحديث إلى : لو ثبت لكان هو المعتمد ، ولكن سنده واه جدا . اهـ . أقول : وآفته ابن السني إبراهيم بن البراء ، ضعفوه جدا ، بل قال فيه : شيخ كان يدور ابن حبان بالشام ويحدث عن الثقات بالموضوعات ، لا يجوز ذكره إلا على سبيل القدح فيه .
ثم قال تعالى : ذلكم فسق . ذهب في تفسيره إلى أن الإشارة هنا راجعة إلى جميع ما سبق من المحرمات ، أي كل محرم منها خروج من طاعة الله ، ورغبة عن شرعه ، وذكر ابن جرير الرازي فيه وجها آخر ، وهو أنه راجع إلى الأخير فقط ، وهو الاستقسام بالأزلام .