ثم قال عز وجل : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . إنني أتنسم من وضع هذا الخبر في هذا الموضع ، وترتيب هذا الأمر والنهي عليه أن حكمة الاكتفاء في أول الإسلام بذكر محرمات الطعام الأربعة الواردة في بعض السور المكية ، وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكة - هو التدريج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها ، كما كان التدريج في تحريم الخمر ; لئلا ينفر العرب من الإسلام ، ويرون فيه حرجا عليهم يرجون به أن يرتد إليهم من آمن من الفقراء ، وهم أكثر السابقين الأولين . جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الإسلام ، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم ، وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه ، وفرارهم من تكاليفه ، وزال طمعهم في الظهور عليهم وإزالة دينهم بالقوة القاهرة ، فكان المؤمنون أجدر بألا يبالوا بمداراتهم ، ولا يهتموا بما ينفرهم من الإسلام ، وألا يخافوهم على أنفسهم وعلى دينهم ، قيل : إن المراد [ ص: 128 ] باليوم في هذه الجملة وفيما بعدها مطلق الوقت والزمن ، كما تقول : كنت بالأمس طفلا أو غلاما ، وقد صرت اليوم رجلا ، والصحيح أن المراد به : يوم عرفة من عام حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة ، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها ، والمبشرة ، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم ، وستأتي الروايات في ذلك ، والمعنى : أن الله أخبر المؤمنين بأن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم . وأنه ينبغي لهم وقد بدلهم بضعفهم قوة وبخوفهم أمنا وبفقرهم غنى ، ألا يخشوا غير الذي جربوا فضله عليه ، وإعزازه لهم ، ثم قال : بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله