اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا نبدأ تفسير هذه البشارات الثلاث مع حمد الله وشكره ، والثناء عليه بما هو أهله ، بذكر صفوة ما ورد فيها عن مفسري السلف من معناها وزمن نزولها ومكانه . روى البيهقي في شعب الإيمان عن في قوله : ابن عباس اليوم يئس الذين كفروا من دينكم يقول : يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبدا فلا تخشوهم : في اتباع محمد واخشون : في عبادة الأوثان وتكذيب محمد ، فلما كان - أي النبي صلى الله عليه وسلم - واقفا بعرفات نزل عليه جبريل ، وهو رافع يده والمسلمون يدعون اليوم أكملت لكم دينكم يقول : حلالكم وحرامكم فلم ينزل بعده حلال ولا حرام وأتممت عليكم نعمتي قال : منتي فلم يحج معكم مشرك ورضيت يقول : اخترت لكم الإسلام دينا . مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ، ثم قبضه الله إليه .
وروى ابن جرير وابن المنذر عنه - أي عن - قال : أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه فلا ينقص أبدا ، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا . ابن عباس
وروى أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن : قال : قالت طارق بن شهاب اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود أنزلت ; لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأي آية ؟ قالوا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي قال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، والساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة في يوم جمعة . وفي رواية عند إسحاق بن راهويه ، أن وعبد بن حميد عمر قال لرجل من اليهود قال له ذلك : الحمد لله الذي جعله لنا عيدا واليوم الثاني ، نزلت يوم عرفة ، واليوم الثاني يوم النحر ، فأكمل الله لنا الأمر ، فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص .
[ ص: 129 ] وأخرج عن ابن جرير عيسى بن حارثة الأنصاري ، قال : كنا جلوسا في الديوان ، فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام ، لقد أنزلت عليكم آية لو أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدا ما بقي منا اثنان اليوم أكملت لكم دينكم فلم يجبه أحد منا ، فلقيت ، فسألته عن ذلك ، فقال : ألا رددتم عليه ؟ فقال : قال محمد بن كعب القرظي : أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على الجبل يوم عمر بن الخطاب عرفة فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد . وروى البزار بسند صحيح عن ، قال : نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عباس بعرفة ، وروى عن ابن جرير ، نحو ما رواه هو وغيره من جواب ابن عباس عمر ، وهو أنه قرأ الآية ، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين ; يوم عيد ويوم جمعة ، وروي عنه أيضا أنه قال في تفسير اليوم ليس بيوم معلوم يعلمه الناس ، ورجح الرواية عن ابن عباس عمر في تعيينه بصحة سندها .
وأما الذي اختاره في تفسير إكمال الدين لهم فهو خلوص البيت الحرام لهم ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون ، وهم لا يخالطهم المشركون ، واستدل على ذلك بخلاف السلف في مسألة إكمال الفرائض والأحكام في ذلك اليوم ، وذكر ما رواه قبل ذلك عن ابن جرير ، ابن عباس والسدي من تفسير الإكمال بإكمال الفرائض والأحكام ، وما يعارضه من قول ، في آية البراء بن عازب يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إنها آخر آية نزلت ، ونقول : لا معارضة فإن مراده أنها آخر آيات الفرائض ، وهذا لا ينفي أن تكون نزلت قبل آية المائدة وسورة المائدة ، واستدل على الترجيح أيضا باتفاق العلماء على أن ، وكونه كان قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا ، وجعل منه آية الفتوى في الكلالة ، وأصحاب القول الآخر يمنعون أن تكون هذه الآية مما نزل بعد آية المائدة ، ولا يمنعون غيرها مما ليس فيه فرائض ولا حلال ولا حرام ، وبهذا يبطل ترجيحه إثبات نزول شيء من الأحكام على نفيه بتقديم المثبت على النافي . الوحي لم ينقطع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قبض
وقد كان قدم قول من قالوا بخلاف ما اختاره وبينه أتم بيان ; إذ قال : اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون ، فرائضي عليكم وحدودي وأمري إياكم ونهيي وحلالي وحرامي وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي ، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد اليوم . انتهى المراد منه ، ثم ذكر تاريخ ذلك اليوم ، وأنه لم ينزل بعده من الفرائض والحلال [ ص: 130 ] والحرام شيء ، وأيده بالرواية عن ، ابن عباس والسدي ، وأما مقابله ، وهو تفسير الدين بالحج خاصة فأيده بالرواية عن قتادة ، وسنبين رأينا في رده . وسعيد بن جبير
وأما مفسرو الخلف فقد نظروا في الآية نظرا آخر ، وهو أنه استدل بها أهل الظاهر على وكل ما ترتب عليه من أحكام العبادات والحلال والحرام ; فأرادوا دفع ذلك ، واستشكل بعضهم ما في مفهوم الإكمال من سبق النقص ; فأرادوا التفصي منه ، وقد سبق صاحب الكشاف إلى قول جامع في الأمرين ، تبعه فيه بطلان القياس البيضاوي والرازي وأبو السعود كعادتهم ، قال : اليوم أكملت لكم دينكم كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم ، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد وأتممت عليكم نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان ، أو أتممت عليكم نعمتي بذلك ; لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام . اهـ .
وقال البيضاوي : اليوم أكملت لكم دينكم بالنصر والإظهار على الأديان كلها بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد وأتممت عليكم نعمتي بالهداية والتوفيق وبإكمال الدين ، أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . اهـ .
وتبعهما في ذلك أبو السعود باللفظ والفحوى ، قال : وتقديم الجار والمجرور ، أي تقديم لكم على قوله : دينكم للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم ، كما في قوله : ألم نشرح لك صدرك ( 94 : 1 ) وشرح الرازي احتجاج منكري القياس بالآية ورد مثبتيه عليهم ، والرد مبني على إثبات الاجتهاد لكل مكلف ، وهو يستلزم بطلان التقليد ، واعتمد في مسألة إكمال الدين من أوله قول القفال أن كل ما نزل في وقت كان كافيا لأهله فيه ، ولم تكن مست الحاجة إلى غيره ، وأن هذا الإكمال في الآية هو إكماله بالنسبة إلى نزول الآية وما بعدها إلى يوم الساعة .