(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28976وحسبوا ألا تكون فتنة ) أي وظنوا ظنا تمكن من نفوسهم ، فكان كالعلم في قوته أنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد . والفتنة : الاختبار بالشدائد ; كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد ، وقيل المراد بها القحط والجوائح ، وليس بظاهر هنا ، وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا هو ما جاء مفصلا في أوائل سورة الإسراء ، التي تسمى سورة
بني إسرائيل أيضا من قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ) ( 17 : 4 ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) الآية . فالفساد مرتين هناك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28976فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم ) أي فعموا عن آيات الله في كتبه ، الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة ، وعن سننه في خلقه المصدقة لها ، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه ، وخرج عن هداية دينه ، فاتبع هواه وظلم نفسه والناس ، فلما عموا وصموا ، وانهمكوا في الظلم والفساد ، سلط الله تعالى عليهم
البابليين فجاسوا خلال الديار ، وأحرقوا المسجد الأقصى
[ ص: 399 ] ونهبوا الأموال ، وسبوا الأمة وسلبوها الملك والاستقلال ، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم ، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم ، ثم عموا وصموا مرة أخرى ، وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض ، وقتل الأنبياء بغير حق ، فسلط الله تعالى عليهم
الفرس ، ثم
الروم (
الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71كثير منهم ) فهو بدل من فاعل " عموا وصموا " أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من
الأزد التي يعبر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال " أكلوني البراغيث " ، والمراد أن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقا لكل فرد من أفرادهم ، وإنما كان هو الكثير الغالب ، وتقدم قريبا في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=66وكثير منهم ساء ما يعملون ) بيان حكمة هذا التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة ، وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها ; لأن العبرة بالغالب ، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام ; ولذلك قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 8 : 25 ) وهذا هو الواقع ، وعلته ظاهرة ، وحكمته باهرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71والله بصير بما يعملون ) الآن من الكيد لخاتم الرسل ; فاتباع الهوى قد أعماهم وأصابهم مرة أخرى ، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ، وما هو عليه من النعوت والصفات ، التي أشار إليها النبيون في بشاراتهم به ، ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات ، وما فيها من الحجج والبينات ، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله ، وقد غفل عن هذا المعنى جمهور المفسرين ، فجعلوا ( يعملون ) بمعنى الماضي ، ونكتة التعبير به استحضار صورة أعمالهم في ماضيهم ، وتمثيلها لهم ولغيرهم في حاضرهم ، كما قلنا في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=70وفريقا يقتلون ) وما قلناه أقوى وأظهر ، وإنما تحسن هذه النكتة في العمل المعين المهم الذي يراد التذكير به بعد وقوعه بجعل الزمن الحاضر مرآة للزمن الغابر ، ولا يظهر هذا الحسن في الأعمال المطلقة المبهمة .
ومن مباحث اللفظ أن
أبا عمرو وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ويعقوب قرءوا " أن لا تكون " ، والأصل حينئذ : وحسبوا أنه - أي الحال والشأن - لا تكون فتنة ; فخففت أن المشددة ، وحذف ضمير الشأن المتصل ، وأشرب الحسبان معنى العمل كما تقدم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28976وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أَيْ وَظَنُّوا ظَنًّا تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ ، فَكَانَ كَالْعِلْمِ فِي قُوَّتِهِ أَنَّهُ لَا تُوجَدُ وَلَا تَقَعُ لَهُمْ فِتْنَةٌ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ . وَالْفِتْنَةُ : الِاخْتِبَارُ بِالشَّدَائِدِ ; كَتَسَلُّطِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالِاضْطِهَادِ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْقَحْطُ وَالْجَوَائِحُ ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ هُنَا ، وَإِنَّمَا الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُجْمِلَ هُنَا هُوَ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ، الَّتِي تُسَمَّى سُورَةَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ( 17 : 4 ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) الْآيَةَ . فَالْفَسَادُ مَرَّتَيْنِ هُنَاكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28976فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) أَيْ فَعَمُوا عَنِ آيَاتِ اللَّهِ فِي كُتُبِهِ ، الدَّالَّةِ عَلَى عِقَابِ اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْمُفْسِدَةِ الظَّالِمَةِ ، وَعَنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الْمُصَدِّقَةِ لَهَا ، وَصَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الرُّسُلُ وَأَنْذَرُوهُمْ بِهَا عِقَابَ اللَّهِ لِمَنْ نَقَضَ مِيثَاقَهُ ، وَخَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ ، فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ ، فَلَمَّا عَمُوا وَصَمُّوا ، وَانْهَمَكُوا فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ ، سَلَّطَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ
الْبَابِلِيِّينَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ، وَأَحْرَقُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى
[ ص: 399 ] وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ ، وَسَبَوُا الْأُمَّةَ وَسَلَبُوهَا الْمُلْكَ وَالِاسْتِقْلَالَ ، ثُمَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى ، وَعَادُوا إِلَى ظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَسَلَّطَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ
الْفُرْسَ ، ثُمَّ
الرُّومَ (
الرُّومَانِيِّينَ ) فَأَزَالُوا مُلْكَهُمْ وَاسْتِقْلَالَهُمْ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ " عَمُوا وَصَمُّوا " أَوْ هُوَ الْفَاعِلُ وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ مِنَ
الْأَزْدِ الَّتِي يُعَبِّرُ النُّحَاةُ بِكَلِمَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ " أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ " ، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَى الْبَصِيرَةِ وَالْخَتْمَ عَلَى السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا مُسْتَغْرِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الْكَثِيرُ الْغَالِبُ ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=66وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) بَيَانُ حِكْمَةِ هَذَا التَّدْقِيقِ فِي الْقُرْآنِ بِنِسْبَةِ الْفَسَادِ لِلْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ فِي الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ اللَّهُ الْأُمَمَ بِالذُّنُوبِ إِذَا كَثُرَتْ وَشَاعَتْ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَالِبِ ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الصَّلَاحِ أَوِ الْفَسَادِ الْعَامِّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) ( 8 : 25 ) وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ ، وَعِلَّتُهُ ظَاهِرَةٌ ، وَحِكْمَتُهُ بَاهِرَةٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=71وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) الْآنَ مِنَ الْكَيْدِ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ ; فَاتِّبَاعُ الْهَوَى قَدْ أَعْمَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى ، فَتَرَكَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ ، الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِهِ ، وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ ، وَسَيُعَاقِبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ ، فَجَعَلُوا ( يَعْمَلُونَ ) بِمَعْنَى الْمَاضِي ، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِهِ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَاضِيهِمْ ، وَتَمْثِيلُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ ، كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=70وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) وَمَا قُلْنَاهُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ الْمُهِمِّ الَّذِي يُرَادُ التَّذْكِيرُ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِجَعْلِ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ مِرْآةً لِلزَّمَنِ الْغَابِرِ ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْحُسْنُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُطَلَقَةِ الْمُبْهَمَةِ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ
أَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيَّ وَيَعْقُوبَ قَرَءُوا " أَنْ لَا تَكُونَ " ، وَالْأَصْلُ حِينَئِذٍ : وَحَسِبُوا أَنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ ; فَخُفِّفَتْ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ ، وَحُذِفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُتَّصِلِ ، وَأُشْرِبَ الْحُسْبَانُ مَعْنَى الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ .