(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28973ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=105ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
أقول : هذا خطاب للمؤمنين في أمر له علاقة بما كان بينهم وبين
اليهود ، فهو متعلق بماضي السياق الخاص
ببني إسرائيل ، وبدء انتقال منه إلى سياق مشترك بين المؤمنين
واليهود والنصارى جميعا في أمر الدين . و ( راعنا ) كلمة كانت تدور على ألسنة الصحابة في خطاب النبي
[ ص: 338 ] - صلى الله عليه وسلم . والمعنى المتبادر منها لغة هو : راعنا سمعك وهو كأرعنا سمعك : أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك القول فيه لنفهمه عنك ، أو راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه . قال في مجاز الأساس : وراعيت الأمر - نظرت إلام يصير وأنا أراعي فلانا - أنظر ماذا يفعل ، وأرعيته سمعي ، وأرعني سمعك ، وراعني سمعك اهـ . ولكن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن قول هذه الكلمة ، والمشهور في كتب التفسير أن سبب ذلك هو أن اليهود سمعوها فافترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لاوين ألسنتهم بها لتوافق كلمة شتم بلسانهم العبراني . قيل : كانوا ينطقون بها " راعينا " وقيل : كانوا يريدون بتحريفها نسبته إلى الرعونة ، وفي سورة النساء (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=46من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) ( 4 : 46 ) الآية .
( الأستاذ الإمام ) : إن هذا النهي له صلة وارتباط بشأن
اليهود لا محالة ؛ لأن الكلام لا يزال في شئونهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ولكن هذا لا يستلزم أن يكون سبب النهي هو كون الكلمة تستعمل للشتم في العبرانية ، ولا أقول بهذا إلا بنقل صحيح عمن يعرف هذه اللغة ، وللمفسرين وجوه أخرى في تعليل النهي ، فعن
مجاهد وغيره أن معنى الكلمة " خلاف " والمراد لا تخالفوه كما يفعل
أهل الكتاب ، ولكن اعترض على هذا الوجه بأن ليس له شاهد من اللغة . والمعروف في اللغة أن ( راعنا ) من المراعاة . وهي تقتضي المشاركة في الرعاية أي ارعنا نرعك ، وفي خطاب النبي بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر ، فالنهي عنه تأديب كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=2ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) ( 49 : 2 ) كأنه يقول : لا تكونوا كهؤلاء الغلاظ القلوب الذين قصصنا عليكم خبرهم ، أو الذين عرفتم سوء أدبهم مع الأنبياء ، بل اجمعوا بين الطاعة والأدب .
( قال ) : وها هنا وجه آخر وهو أنه يقال في اللغة : راعى الحمار الحمر إذا رعى معها ، فيجوز أن
اليهود كانوا يحرفون الكلمة بصرفها إلى هذا المعنى ، فنهى الله المسلمين عن هذه الكلمة ، وشنع على
اليهود بإظهار سوء قصدهم فيها ، وقد رضوا بصرف اللفظ إلى هذا المعنى وإن كان يتضمن أنهم حمر ؛ لأن السباب يسب نفسه كما يسب غيره فهو على حد قول القائل :
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ) ، نهاهم - تعالى - عن كلمة كانوا يقولونها وأمرهم بكلمة خير منها تفيد ما كانوا يريدونه منها . فكلمة (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104انظرنا ) تفيد معنى كلمة ( راعنا ) فإن فيها معنى الإنظار والإمهال ، ويؤيد هذا المعنى قراءة ( انظرنا ) من الإنظار ، وفيها معنى المراقبة وهو ما يستفاد من النظر بالعين . تقول : نظرت الشيء
[ ص: 339 ] ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته ، وتقول : نظرته بمعنى انتظرته ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=49ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) ( 36 : 49 ) أذن الله - تعالى - لهم بهذه الكلمة ( انظرنا ) وأمرهم بالسماع للنبي ليعوا عنه ما يقول من الدين وهو أمر يتضمن الطاعة والاستجابة . ثم ختم الآية بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104وللكافرين عذاب أليم ) لبيان أن
nindex.php?page=treesubj&link=29435ما صدر عن اليهود من سوء الأدب في خطاب الرسول هو أثر من آثار الكفر الذي يعذبون عليه العذاب الموجع أشد الإيجاع ، وللتنبيه على أن التقصير في الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - ذنب مجاور للكفر يوشك أن يجر إليه ، فيجب الاحتراس منه بترك الألفاظ الموهمة للمساواة ، بله الألفاظ المنافية للآداب .
أقول : لا شك أن من يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل ، يقل احترامه له وتزول هيبته من نفسه حتى تقل الاستفادة منه أو تعدم ، وإذا لم تزل الاستفادة منه من حيث كونه معلما ، فإنها تقل وتزول لا محالة من حيث كونه مربيا ؛ لأن المدار في التربية على التأسي والقدوة ، ومن أراه مثلي لا أرضاه إماما وقدوة لي ، فإن رضيته بالمواضعة والتقليد وكذبتني المعاملة ، فأي قيمة لهذا الرضى ، والعبرة بما في الواقع ونفس الأمر ، وهو أن من اعتقد أن امرأ فوقه علما وكمالا ، وأنه في حاجة للاستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه ، فإنه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القولية ولا الفعلية ، إلا ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم ، وعن مثل هذا نهى الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ لئلا يجرهم الأنس به - صلى الله عليه وسلم - وكرم أخلاقه إلى تعدي حدود الأدب الواجب معه الذي لا تكمل التربية إلا بكماله ، وهو - تعالى - يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=21لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ( 33 : 21 ) الآية .
( الأستاذ الإمام ) : إنما كان
nindex.php?page=treesubj&link=23680_23683عدم الإصغاء لما يقوله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وخطابه خطاب الأكفاء والنظراء مجاورا للكفر ؛ لأنه يتكلم عن الله عز وجل لسعادة من يسمع ويعقل ويأخذ ما يؤمر به بالأدب ويسأل عما لا يفهمه بالأدب ، ومن فاتته هذه السعادة فهو الشقي الذي لا يعدل بشقائه شقاء . ومعنى هذه المجاورة أن سوء الأدب بنحو ما حكي عن
اليهود في سورة النساء ، هو من الكفر الصريح ، ولذلك قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=46ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) ( 4 : 46 ) فالألفاظ التي تحاكي الألفاظ التي توعدوا عليها بهذا الوعيد على أنها كفر إذا صدرت من المؤمن غير محرفة ولا مقصودا بها ما كانوا يقصدون ، تسمى مجاورة لألفاظ الكفر ؛ لأنها موهمة وخارجة عن حدود الأدب اللائق بالمؤمنين .
( قال ) : إن لمن جاء بعد الرسول حظا من هذا التأديب ، وليس هو خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين ، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم ، وكان يجب الاستماع له والإنصات لأجل تدبره ، هو الذي يتلى علينا بعينه ، لم يذهب منه شيء ، وهو كلام الله الذي به
[ ص: 340 ] كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه ، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون ؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن ، فلا يستمعون ولا ينصتون ، ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولونه في مجالس الغناء ، ويهتزون للتلاوة ويصوتون بأصوات مخصوصة ، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق ، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة
يوسف - عليه السلام - مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة ولا سيما العفة والأمانة ، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها ، وتتوعد على تركه بجعله مجاورا للكفر الذي يسوق صاحبه إلى العذاب الأليم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) ( 23 : 68 ، 69 ) ؟ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28973يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=105مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )
أَقُولُ : هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرٍ لَهُ عِلَاقَةٌ بِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْيَهُودِ ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاضِي السِّيَاقِ الْخَاصِّ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَبَدْءِ انْتِقَالٍ مِنْهُ إِلَى سِيَاقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ . وَ ( رَاعِنَا ) كَلِمَةٌ كَانَتْ تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصَّحَابَةِ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ
[ ص: 338 ] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا لُغَةً هُوَ : رَاعِنَا سَمْعَكَ وَهُوَ كَأَرْعِنَا سَمْعَكَ : أَيِ اسْمَعْ لَنَا مَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَنُرَاجِعَكَ الْقَوْلَ فِيهِ لِنَفْهَمَهُ عَنْكَ ، أَوْ رَاقِبْنَا وَانْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِنَا فِي حِفْظِ مَا تُلْقِيهِ عَلَيْنَا وَفَهْمِهِ . قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ : وَرَاعَيْتُ الْأَمْرَ - نَظَرْتُ إِلَامَ يَصِيرُ وَأَنَا أُرَاعِي فُلَانًا - أَنْظُرُ مَاذَا يَفْعَلُ ، وَأَرْعَيْتُهُ سَمْعِي ، وَأَرْعِنِي سَمْعَكَ ، وَرَاعِنِي سَمْعَكَ اهـ . وَلَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوهَا فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاوِينَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا لِتُوَافِقَ كَلِمَةَ شَتْمٍ بِلِسَانِهِمُ الْعِبْرَانِيِّ . قِيلَ : كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا " رَاعَيْنَا " وَقِيلَ : كَانُوا يُرِيدُونَ بِتَحْرِيفِهَا نِسْبَتَهُ إِلَى الرُّعُونَةِ ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=46مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( 4 : 46 ) الْآيَةَ .
( الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) : إِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَهُ صِلَةٌ وَارْتِبَاطٌ بِشَأْنِ
الْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي شُئُونِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ هُوَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّتْمِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ ، وَلَا أَقُولُ بِهَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ ، فَعَنْ
مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ " خِلَافٌ " وَالْمُرَادُ لَا تُخَالِفُوهُ كَمَا يَفْعَلُ
أَهْلُ الْكِتَابِ ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللُّغَةِ . وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ ( رَاعِنَا ) مِنَ الْمُرَاعَاةِ . وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الرِّعَايَةِ أَيِ ارْعَنَا نَرْعَكَ ، وَفِي خِطَابِ النَّبِيِّ بِذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ تَأْدِيبٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=2يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) ( 49 : 2 ) كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ الْغِلَاظِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ خَبَرَهُمْ ، أَوِ الَّذِينَ عَرَفْتُمْ سُوءَ أَدَبِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ ، بَلِ اجْمَعُوا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ .
( قَالَ ) : وَهَا هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ : رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ إِذَا رَعَى مَعَهَا ، فَيَجُوزُ أَنَّ
الْيَهُودَ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَةَ بِصَرْفِهَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ، وَشَنَّعَ عَلَى
الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ سُوءِ قَصْدِهِمْ فِيهَا ، وَقَدْ رَضُوا بِصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ حُمُرٌ ؛ لِأَنَّ السَّبَّابَ يَسُبُّ نَفْسَهُ كَمَا يَسُبُّ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَائِلِ :
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ) ، نَهَاهُمْ - تَعَالَى - عَنْ كَلِمَةٍ كَانُوا يَقُولُونَهَا وَأَمَرَهُمْ بِكَلِمَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا تُفِيدُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْهَا . فَكَلِمَةُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104انْظُرْنَا ) تُفِيدُ مَعْنَى كَلِمَةِ ( رَاعِنَا ) فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْظَارِ وَالْإِمْهَالِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ ( انْظِرْنَا ) مِنَ الْإِنْظَارِ ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ . تَقُولُ : نَظَرْتُ الشَّيْءَ
[ ص: 339 ] وَنَظَرْتَ إِلَيْهِ إِذَا وَجَّهْتَ إِلَيْهِ بَصَرَكَ وَرَأَيْتَهُ ، وَتَقُولُ : نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرْتُهُ وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=49مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) ( 36 : 49 ) أَذِنَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ( انْظُرْنَا ) وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمَاعِ لِلنَّبِيِّ لِيَعُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ مِنَ الدِّينِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ . ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) لِبَيَانِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29435مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ الَّذِي يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ الْمُوجِعَ أَشَدَّ الْإِيجَاعِ ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنْبٌ مُجَاوِرٌ لِلْكُفْرِ يُوشِكُ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ ، فَيَجِبُ الْاحْتِرَاسُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلْمُسَاوَاةِ ، بَلْهَ الْأَلْفَاظِ الْمُنَافِيَةِ لِلْآدَابِ .
أَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُعَامِلُ أُسْتَاذَهُ وَمُرْشِدَهُ مُعَامَلَةَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، يَقِلُّ احْتِرَامُهُ لَهُ وَتَزُولُ هَيْبَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَقِلَّ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ أَوْ تَعْدَمَ ، وَإِذَا لَمْ تَزُلِ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَلِّمًا ، فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَزُولُ لَا مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُرَبِّيًا ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةِ ، وَمَنْ أَرَاهُ مِثْلِي لَا أَرْضَاهُ إِمَامًا وَقُدْوَةً لِي ، فَإِنْ رَضِيتُهُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَالتَّقْلِيدِ وَكَذَّبَتْنِي الْمُعَامَلَةُ ، فَأَيُّ قِيمَةٍ لِهَذَا الرِّضَى ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأً فَوْقَهُ عِلْمًا وَكَمَالًا ، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَلَا الْفِعْلِيَّةِ ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ اللَّمَمِ ، وَعَنْ مِثْلِ هَذَا نَهَى الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ؛ لِئَلَّا يَجُرَّهُمُ الْأُنْسُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ التَّرْبِيَةُ إِلَّا بِكَمَالِهِ ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=21لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) ( 33 : 21 ) الْآيَةَ .
( الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) : إِنَّمَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=23680_23683عَدَمُ الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَخِطَابُهُ خِطَابُ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِسَعَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ وَيَأْخُذُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بِالْأَدَبِ وَيَسْأَلُ عَمَّا لَا يَفْهَمُهُ بِالْأَدَبِ ، وَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَهُوَ الشَّقِيُّ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِشَقَائِهِ شَقَاءٌ . وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُجَاوَرَةِ أَنَّ سُوءَ الْأَدَبِ بِنَحْوِ مَا حُكِيَ عَنِ
الْيَهُودِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، هُوَ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=46وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) ( 4 : 46 ) فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تُحَاكِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُوُعِّدُوا عَلَيْهَا بِهَذَا الْوَعِيدِ عَلَى أَنَّهَا كُفْرٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ غَيْرَ مُحَرَّفَةٍ وَلَا مَقْصُودًا بِهَا مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ ، تُسَمَّى مُجَاوِرَةً لِأَلْفَاظِ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهَا مُوهِمَةٌ وَخَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِ الْأَدَبِ اللَّائِقِ بِالْمُؤْمِنِينَ .
( قَالَ ) : إِنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الرَّسُولِ حَظًّا مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ ، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا بِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لَهُ وَالْإِنْصَاتُ لِأَجْلِ تَدَبُّرِهِ ، هُوَ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي بِهِ
[ ص: 340 ] كَانَ الرَّسُولُ رَسُولًا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالْاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ ، فَمَا هَذَا الْأَدَبُ الَّذِي يُقَابِلُهُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ ؟ إِنَّهُمْ يَلْغَطُونَ فِي مَجْلِسِ الْقُرْآنِ ، فَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يُنْصِتُونَ ، وَمَنْ أَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ فَإِنَّمَا يُنْصِتُ طَرَبًا بِالصَّوْتِ وَاسْتِلْذَاذًا بِتَوْقِيعِ نَغَمَاتِ الْقَارِئِ ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ وَاسْتَجَادَتِهِ مَا يَقُولُونَهُ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ ، وَيَهْتَزُّونَ لِلتِّلَاوَةِ وَيُصَوِّتُونَ بِأَصْوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ ، كَمَا يَفْعَلُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ بِلَا فَرْقٍ ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مَدْعَاةً لِسُرُورِهِمْ فِي مِثْلِ قِصَّةِ
يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْفَضِيلَةِ وَلَا سِيَّمَا الْعِفَّةُ وَالْأَمَانَةُ ، أَلَيْسَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْقُرْآنِ مِنْهُ بِالْأَدَبِ اللَّائِقِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا ، وَتَتَوَعَّدُ عَلَى تَرْكِهِ بِجَعْلِهِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ الَّذِي يَسُوقُ صَاحِبَهُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ( 23 : 68 ، 69 ) ؟ .