قوله إذ قالت بدل من قوله وإذ قالت المذكور قبله وما بينهما اعتراض ، وقيل : بدل من إذ يختصمون وقيل : منصوب بفعل مقدر ، وقيل : بقوله : يختصمون وقيل : بقوله : وما كنت لديهم .
والمسيح اختلف فيه مماذا أخذ ؟ فقيل : من المسح ; لأنه مسح الأرض ; أي : ذهب فيها فلم يستكن بكن ، وقيل : إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ ، فسمي مسيحا ، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل ، وقيل : لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به ، وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين ، وقيل : لأن الجمال مسحه ، وقيل : لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، وهو على هذه الأربعة الأقوال فعيل بمعنى مفعول .
وقال أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة . وقال ابن الأعرابي المسيح الصديق .
وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيخا بالمعجمتين فعرب كما عرب موشى بموسى . وأما الدجال فسمي مسيحا ; لأنه ممسوح إحدى العينين ، وقيل : لأنه يمسح الأرض أي يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس .
وقوله عيسى عطف بيان أو بدل وهو اسم أعجمي ، وقيل : هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه . قال في الكشاف : هو معرب من أيشوع انتهى .
والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة ، وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب معها [ ص: 219 ] تنبيها على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه . والوجيه ذو الوجاهة : وهي القوة والمنعة ، ووجاهته في الدنيا النبوة ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة ، وهو منتصب على الحال من كلمة ، وإن كانت نكرة فهي موصوفة ، وكذلك قوله : ومن المقربين في محل نصب على الحال .
قال الأخفش : هو معطوف على " وجيها " . والمهد : مضجع الصبي في رضاعه ، ومهدت الأمر : هيأته ووطأته .
والكهل هو من كان بين سن الشباب والشيخوخة ; أي : يكلم الناس حال كونه رضيعا في المهد وحال كونه كهلا بالوحي والرسالة ، قاله . وقال الزجاج الأخفش : إن كهلا معطوف على وجيها . والفراء
قال الأخفش : " ومن الصالحين " عطف على وجيها ; أي : هو من العباد الصالحين . قوله : أنى يكون لي ولد أي : كيف يكون على طريقة الاستبعاد العادي ولم يمسسني بشر جملة حالية ; أي : والحال أنه على حالة منافية للحالة المعتادة من كون له أب قال كذلك الله يخلق ما يشاء هو من كلام الله سبحانه .
وأصل القضاء الأحكام ، وقد تقدم ، وهو هنا الإرادة ; أي : إذا أراد أمرا من الأمور فإنما يقول له كن فيكون من غير عمل ولا مزاولة ، وهو تمثيل لكمال قدرته .
قوله ويعلمه الكتاب قيل : هو معطوف على يبشرك ; أي : إن الله يبشرك وإن الله يعلمه ، وقيل على " يخلق " أي : وكذلك يعلمه الله ، أو كلام مبتدأ سيق تطييبا لقلبها .
والكتاب الكتابة . والحكمة العلم ، وقيل تهذيب الأخلاق ، وانتصاب رسولا على تقدير ويجعله رسولا ، أو ويكلمهم رسولا ، أو وأرسلت رسولا ، وقيل : هو معطوف على قوله : وجيها فيكون حالا لأن فيه معنى النطق أي : وناطقا ، قال الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله : ورسولا مقحمة ، والرسول حالا . /050 قوله : أني قد جئتكم معمول لرسول ; لأن فيه معنى النطق كما مر ، وقيل أصله بأني قد جئتكم فحذف الجار ، وقيل : منصوب بمضمر أي تقول أني قد جئتكم ، وقيل : معطوف على الأحوال السابقة . وقوله بآية في محل نصب على الحال ; أي : متلبسا بعلامة كائنة من ربكم .
وقوله : أني أخلق أي أصور وأقدر لكم من الطين كهيئة الطير وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى ، وهي أني قد جئتكم أو بدل من آية أو خبر مبتدأ محذوف ; أي : هي أني ، وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ الأعرج وأبو جعفر كهيئة الطير بالتشديد ، والكاف في قوله كهيئة الطير نعت مصدر محذوف ; أي : أخلق لكم خلقا أو شيئا مثل هيئة الطير .
وقوله : فأنفخ فيه أي في ذلك الخلق ، أو ذلك الشيء فالضمير راجع إلى الكاف في قوله : كهيئة الطير ، وقيل : الضمير راجع إلى الطير ; أي : الواحد منه ، وقيل إلى الطين ، وقرئ : فيكون طائرا وطيرا ، مثل تاجر وتجر ، وقيل إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة .
فإن له ثديا وأسنانا وأذنا ويحيض ويطهر ، وقيل إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة ، ولكونه يطير بغير ريش ، ويلد كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ، وهو يضحك كما يضحك الإنسان ، وقيل إن سؤالهم له كان على وجه التعنت ، قيل كان يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الله من فعل غيره وقوله " بإذن الله " فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك ، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام ، قيل : كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى ، والخلق من الله عز وجل .
قوله : وأبرئ الأكمه الأكمه : الذي يولد أعمى ، كذا قال أبو عبيدة . وقال ابن فارس : الكمه العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمها : إذا عمي ، وكمهت عينه : إذا أعميتها ، وقيل الأكمه : الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقيل : هو الممسوح العين .
والبرص معروف وهو بياض يظهر في الجلد . وقد عيسى عليه السلام يبرئ من أمراض عدة كما اشتمل عليه الإنجيل ، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر ; لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة ، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك . كان
قوله : وأنبئكم بما تأكلون أي أخبركم بالذي تأكلونه وبالذي تدخرونه . قوله : ومصدقا عطف على قوله : ورسولا وقيل : المعنى وجئتكم مصدقا .
قوله : ولأحل أي ولأجل أن أحل ; أي : من الأطعمة في التوراة كالشحوم وكل ذي ظفر ، وقيل : إنما أحل لهم ما حرمته عليهم الأحبار ولم تحرمه التوراة . وقال جئتكم بآية من ربكم وجئتكم لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم أبو عبيدة : يجوز أن يكون " بعض " بمعنى " كل " ، وأنشد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
.قال القرطبي : وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ; لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل ، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرمته عليهم التوراة ، فإنه لم يحلل القتل ولا السرق ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة ، وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين ، ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة كقول الشاعر :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أي بعض الشر أهون من كله .
قوله : بآية من ربكم هي قوله : إن الله ربي وربكم وإنما كان ذلك آية ; لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك ، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته . ويحتمل أن تكون هذه الآية المتقدمة فتكون تكريرا لقوله : أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين الآية .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : بكلمة قال : ابن عباس عيسى هو الكلمة من [ ص: 220 ] الله .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : المهد : مضجع الصبي في رضاعه . وقد ثبت في الصحيح أنه ابن عباس : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي ، فجاءته أمه فدعته فقال : أجيبها أو أصلي ؟ فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعة فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى ، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت : من جريج ، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه ، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الراعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ؟ قال : لا إلا من طين . وكانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابنا لها ، فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديها يمصه ، ثم مر بأمة تجرجر ويلعب بها فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه ، فترك ثديها فقال : اللهم اجعلني مثلها ، فقالت : لم ذاك ؟ فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون لها : زنيت ، وتقول : حسبي الله ونعم الوكيل . ويقولون : سرقت . وتقول : حسبي الله .
وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبي هريرة عيسى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وابن ماشطة فرعون . لم يتكلم في المهد إلا
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في قوله : ويكلم الناس في المهد وكهلا قال : يكلمهم صغيرا وكبيرا . وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : الكهل هو من في سن الكهولة . ابن عباس
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد قال : الكهل الحليم . وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ويعلمه الكتاب قال : الخط بالقلم .
وأخرج عن ابن جرير نحوه . وأخرج ابن جريج أبو الشيخ عن قال : إنما خلق ابن عباس عيسى طائرا واحدا وهو الخفاش .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم الضحاك عن قال : الأكمه الذي يولد أعمى . وأخرج ابن عباس عنه قال : الأكمه الأعمى الممسوح العينين . ابن أبي حاتم
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد قال : الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل . وأخرجوا عن عكرمة قالوا : الأكمه الأعمش .
وأخرج أحمد في الزهد عن قال : كان خالد الحذاء عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم قولوا كذا ، فإذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وأنبئكم بما تأكلون قال : بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا ، فأكلوا وادخروا وخانوا ، فجعلوا قردة وخنازير . وأخرج عمار بن ياسر عن ابن جرير وهب أن عيسى كان على شريعة موسى ، وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس ، وقال لبني إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم من الآصار .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم الربيع في الآية : قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب ، فأحلها لهم على لسان عيسى ، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير ، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل . وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة مثله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وجئتكم بآية من ربكم قال : ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها وما أعطاه ربه .