قوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون قرأ ابن كثير ، وحفص ( يقولون ) بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى ، و ( إذن ) جواب [ ص: 825 ] عن مقالتهم الباطلة وجزاء ل ( لو ) لابتغوا إلى ذي العرش وهو الله سبحانه سبيلا طريقا للمغالبة والممانعة كما تفعل الملوك مع بعضهم البعض من المقاتلة والمصاولة ، وقيل : معناه : إذن لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده ، لأنهم دونه ، والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقربهم إلى الله .
والظاهر المعنى الأول ، ومثل معناه قوله سبحانه : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
ثم نزه تعالى نفسه ، فقال سبحانه والتسبيح : التنزيه ، وقد تقدم وتعالى تباعد عما يقولون من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة علوا أي تعاليا ، ولكنه وضع العلو موضع التعالي كقوله : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة ، وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين الغني المطلق ، والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها .
ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن قرئ بالمثناة التحتية في ( يسبح ) وبالفوقية ، وقال فيهن بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء ، وقد أخبر سبحانه عن السماوات والأرض بأنها تسبحه ، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل ، ثم زاد ذلك تعميما وتأكيدا فقال : وإن من شيء إلا يسبح بحمده فشمل كل ما يسمى شيئا كائنا ما كان ، وقيل : إنه يحمل قوله : ومن فيهن على الملائكة والثقلين ، ويحمل وإن من شيء إلا يسبح بحمده على ما عدا ذلك من المخلوقات .
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا ؟ فقالت طائفة : ليس بمخصوص ، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر .
وقالت طائفة : هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره .
والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : ولكن لا تفقهون تسبيحهم فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد .
وأجيب بأن المراد بقوله ( لا تفقهون ) الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار .
وقالت طائفة : إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات ، وقيل : خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات ، كما روي هذا القول عن عكرمة ، والحسن وخص تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها وقد استدل لذلك بحديث ويؤيد حمل الآية على العموم قوله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على قبرين وفيه ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين ، وقال : إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله ، وقوله : وتخر الجبال هدا ونحو ذلك من الآيات ، وثبت في الصحيح أنهم - ، وهكذا حديث حنين الجذع ، وحديث أن حجرا كانوا يسمعون تسبيح الطعام ، وهم يأكلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم بمكة كان يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها في الصحيح ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه - صلى الله عليه وسلم - .
ومدافعة عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده ، ومعنى إلا يسبح بحمده إلا يسبح متلبسا بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
قرأ الحسن ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي وخلف ( تسبح ) بالمثناة الفوقية على الخطاب ، وقرأ الباقون بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد إنه كان حليما غفورا فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم ، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم .
ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا جعلنا بينك يا محمد وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا ، أي : إنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرون بك ولا يرونك ، ذكر معناه وغيره ، ومعنى ( مستورا ) ساتر . الزجاج
قال الأخفش : أراد ساترا ، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول : إنك لمشئوم وميمون . وإنما هو شائم ويامن ، وقيل : معنى ( مستورا ) ذا ستر ، كقولهم سيل مفعم ، أي : ذو إفعام ، وقيل : هو حجاب لا تراه الأعين فهو مستور عنها ، وقيل : حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره ، وقيل : المراد بالحجاب المستور الطبع والختم .
وجعلنا على قلوبهم أكنة الأكنة : جمع كنان .
وقد تقدم تفسيره في الأنعام ، وقيل : هو حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم : قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب و أن يفقهوه مفعول لأجله ، أي : كراهة أن يفقهوه ، أو لئلا يفقهوه ، أي يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني وفي آذانهم وقرا أي صمما وثقلا ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : إن يسمعوه .
ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر آلهتهم كما يذكر الله سبحانه فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس ، ولهذا قال الله : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده أي واحدا غير مشفوع بذكر آلهتهم ، فهو مصدر وقع موقع الحال ولوا على أدبارهم نفورا هو مصدر ، والتقدير : هربوا نفورا ، أو نفروا نفورا ، وقيل : جمع نافر كقاعد وقعود .
والأول أولى .
ويكون المصدر في موضع الحال ، أي : ولوا نافرين .
نحن أعلم بما يستمعون به أي يستمعون إليك متلبسين به من الاستخفاف بك وبالقرآن واللغو في ذكرك لربك وحده وقيل : الباء زائدة والظرف في إذ يستمعون إليك متعلق بأعلم ، أي : نحن أعلم وقت يستمعون إليك بما يستمعون به ، وفيه تأكيد للوعيد ، وقوله : وإذ هم نجوى متعلق بأعلم أيضا ، أي : ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم ، وقد [ ص: 826 ] كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء ، يقول بدل من وإذ هم نجوى .
إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم : ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلط عقله وزال عن حد الاعتدال .
قال : المسحور الذاهب العقل الذي أفسد من قولهم طعام مسحور إذا أفسد عمله ، وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها . ابن الأعرابي
وقيل : المسحور المخدوع ، لأن السحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنهم زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يتعلم من بعض الناس ، وكانوا يخدعونه بذلك التعليم .
وقال أبو عبيدة : معنى ( مسحورا ) أن له سحرا ، أي : رئة ، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ، وكل من كان يأكل من آدمي أو غيره مسحور ، ومنه قول امرئ القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل .قال ابن قتيبة : لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة .
انظر كيف ضربوا لك الأمثال أي قالوا تارة إنك كاهن وتارة ساحر ، وتارة شاعر ، وتارة مجنون فضلوا عن طريق الصواب في جميع ذلك فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى أو إلى الطعن الذي تقبله العقول ويقع التصديق له لا أصل الطعن ، فقد فعلوا منه ما قدروا عليه ، وقيل : لا يستطيعون مخرجا لتناقض كلامهم كقولهم : ساحر مجنون .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : سعيد بن جبير إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا قال : على أن يزيلوا ملكه .
وأخرج ، سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرط المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطار به حتى بلغ السماوات العلى ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحا من السماوات العلى مع تسبيح كثير سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا ، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إلى
وأخرج ابن مردويه عن أنس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح بحمده . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدة فقال : أطت السماء ويحق لها أن تئط ، والذي نفس
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن نوحا قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول سبحان الله ، فإنها صلاة الخلائق ، وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق ، قال الله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده .
وأخرج أحمد ، وابن مردويه من حديث نحوه . ابن عمر
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي أمامة قال : ما من عبد سبح تسبيحة إلا سبح ما خلق الله من شيء قال : وإن من شيء إلا يسبح بحمده قال ابن كثير إسناده فيه ضعف .
وأخرج ، البخاري ومسلم وغيرهما عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة . قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه : من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح
وأخرج ، النسائي وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عمرو قال . نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع وقال : نقيقها تسبيح
وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن في قوله : ابن عباس وإن من شيء إلا يسبح بحمده قال : الزرع يسبح وأجره لصاحبه والثوب يسبح ويقول الوسخ إن كنت مؤمنا فاغسلني إذن .
وأخرج أبو الشيخ عنه قال : كل شيء يسبح إلا الكلب والحمار .
وأخرج في مسنده من طريق ابن راهويه قال : أتى الزهري أبو بكر بغراب وافر الجناحين ، فجعل ينشر جناحيه ويقول : ما صيد من صيد ولا عضد من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح .
وأخرجه أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن قال : أتى ميمون بن مهران فذكره من قوله غير مرفوع . أبو بكر الصديق
وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه من حديث بنحوه . أبي هريرة
وأخرج ابن مردويه من حديث بمعنى بعضه . ابن مسعود
وأخرج أبو الشيخ من حديث بمعناه . أبي الدرداء
وأخرج من حديث ابن عساكر أبي رهم نحوه .
وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية وإن من شيء إلا يسبح بحمده قال : في التوراة تسبح له الجبال ويسبح له الشجر ، ويسبح له كذا ، ويسبح له كذا ، وأخرج أحمد ، وأبو الشيخ عن قال : صلى ابن عباس داود ليلة حتى أصبح ، فلما أصبح وجد في نفسه سرورا فنادته ضفدعة يا داود كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاءة .
وأخرج البيهقي في الشعب عن صدقة بن يسار قال : كان داود في محرابه فأبصر دودة صغيرة ففكر في خلقها وقال : ما يعبأ الله بخلق هذه ، فأنطقها الله فقالت : يا داود أتعجبك نفسك ، لأنا على قدر ما آتاني الله أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك الله ، قال الله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده .
وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها التصريح . بتسبيح جميع المخلوقات
وأخرج أبو يعلى ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن قال : أسماء بنت أبي بكر تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة ، وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا
ورسول الله جالس وأبو بكر إلى جنبه ، فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني ، فقال أبو بكر : لا ورب هذا [ ص: 827 ] البيت ما هجاك . فانصرفت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة . لما نزلتوأخرج ، ابن جرير عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا قال : الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم .
وأخرج عن ابن أبي حاتم زهير بن محمد في الآية قال : ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ القرآن على المشركين بمكة سمعوا قراءته ولا يرونه .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه عن في قوله : ابن عباس ولوا على أدبارهم نفورا قال : الشياطين .
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : إذ يستمعون إليك قال : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل .