الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قالوا إن يسرق أي بنيامين فقد سرق أخ له من قبل [ ص: 708 ] يعنون يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي ؟ فقيل إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب ، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سنا من ذكر أو أنثى ، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حبا شديدا ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلمي يوسف إلي فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها ، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها ، ثم قالت : قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها ، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة : وقيل إن يوسف أخذ صنما كان لجده أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييرا للمنكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي عن الزجاج أنه كان صنما من ذهب .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال : الله أعلم ، أسرق أخ له أم لا ؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال : كذبوا عليه فيما نسبوه إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وهذا أولى ، فما هذه الكذبة بأول كذباتهم ، وقد قدمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فأسرها يوسف في نفسه قال الزجاج وغيره : الضمير في " أسرها " يعود إلى الكلمة أو الجملة ، كأنه قيل فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم ثم فسرها بقوله : قال أنتم شر مكانا وقد رد أبو علي الفارسي هذا فقال : إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ، وقيل : الضمير عائد إلى الإجابة ، أي : أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر ، وقيل : أسر في نفسه قولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل وهذا هو الأولى ، ويكون معنى ولم يبدها لهم أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها أو بطلانها ، وجملة قال أنتم شر مكانا مفسرة على القول الأول ، ومستأنفة على القولين الآخرين ، كأنه قيل : فماذا قال يوسف لما قال هذه المقالة ؟ أي أنتم شر مكانا ، أي : موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء ، فإنكم قد فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : والله أعلم بما تصفون من الباطل بنسبة السرق إلى يوسف ، وأنه لا حقيقة لذلك ، ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردوه إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا أي إن لبنيامين هذا أبا متصفا بهذه الصفة ، وهي كونه شيخا كبيرا لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه فخذ أحدنا مكانه يبقى لديك ، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرر بفراق أحدنا كما يتضرر بفراق بنيامين ، ثم عللوا ذلك بقوله ، إنا نراك من المحسنين إلى الناس كافة .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلينا خاصة ، فتمم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب .

                                                                                                                                                                                                                                      فأجاب يوسف عليهم بقوله : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي نعوذ بالله معاذا ، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف ، والمستعيذ بالله هو المعتصم به ، و أن نأخذ منصوب بنزع الخافض ، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حل لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه .

                                                                                                                                                                                                                                      إنا إذا لظالمون أي إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما استيأسوا منه أي يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه ، والسين والتاء للمبالغة خلصوا نجيا أي انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم ، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله وقربناه نجيا [ مريم : 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم قال كبيرهم قيل : هو روبيل لأنه الأسن ، وقيل : يهوذا لأنه الأوفر عقلا ، وقيل : شمعون لأنه رئيسهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا من الله في حفظ ابنه ورده إليه ، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه ومن قبل ما فرطتم في يوسف معطوف على ما قبله ، والتقدير : ألم تعلموا أن أباكم . . . وتعلموا تفريطكم في يوسف ، ذكر هذا النحاس وغيره ، ومن قبل متعلقة بتعلموا ، أي : وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل ، على أن " ما " مصدرية ، ويجوز أن تكون زائدة ، وقيل : ما فرطتم مرفوع المحل على الابتداء ، وخبره " من قبل " وقيل : إن " ما " موصولة أو موصوفة ، وكلاهما في محل النصب أو الرفع ، وما ذكرناه هو الأولى ، ومعنى فرطتم : قصرتم في شأنه ، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه فلن أبرح الأرض ، يقال برح براحا وبروحا ، أي : زال ، فإذا دخله النفي صار مثبتا ، أي : لن أبرح من الأرض ، بل ألزمها ولا أزال مقيما فيها حتى يأذن لي أبي في مفارقتها والخروج منها ، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم أو يحكم الله لي بمفارقتها والخروج منها ، وقيل : المعنى : أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه ، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك وهو خير الحاكمين لأن أحكامه لا تجري إلا على ما يوافق الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      ويطابق الصواب .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال كبيرهم مخاطبا لهم ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق قرأ الجمهور سرق على البناء للفاعل ، لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول ، وروى ذلك النحاس عن الكسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : إن " سرق " يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السرق ، والآخر اتهم بالسرق وما شهدنا إلا بما علمنا من استخراج [ ص: 709 ] الصواع من وعائه ، وقيل : المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك وما كنا للغيب حافظين حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه ؟ وقيل : المعنى : ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرج معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به ، وقيل : الغيب هو الليل ، ومرادهم أنه سرق وهم نيام ، وقيل : مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فخفي عليهم فعله واسأل القرية التي كنا فيها هذا من تمام قول كبيرهم لهم ، أي : قولوا لأبيكم اسأل القرية التي كنا فيها ، أي : مصر ، والمراد أهلها : أي اسأل أهل القرية ، وقيل : هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها ، وقيل : المعنى : واسأل القرية نفسها وإن كانت جمادا فإنك نبي الله ، والله سبحانه سينطقها فتجيبك ، ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه : لا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند والعير التي أقبلنا فيها أي وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها ، أي : أصحابها ، وكانوا قوما معروفين من جيران يعقوب وإنا لصادقون فيما قلنا ، جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل قال : يعنون يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : سرق مكحلة لخالته ، يعني يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال : سرق في صباه ميلين من ذهب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : سرق يوسف صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع ، وقد روي نحوه عن جماعة من التابعين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فأسرها يوسف في نفسه قال : أسر في نفسه قوله : أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله : فلما استيأسوا منه قال : أيسوا منه ، ورأوا شدته في أمره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : خلصوا نجيا قال : وحدهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : قال كبيرهم قال : شمعون الذي تخلف أكبرهم عقلا ، وأكبر منه في الميلاد روبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال كبيرهم هو روبيل ، وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : أو يحكم الله لي قال : أقاتل بسيفي حتى أقتل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة وما كنا للغيب حافظين قال : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : واسأل القرية قال : يعنون مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية