قوله : أم حسبت أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة عند الجمهور ، وببل وحدها عند بعضهم ، والتقدير : بل أحسبت ، أو بل حسبت ، ومعناها : الانتقال من حديث إلى حديث آخر لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى بل في الأصل .
والمعنى : أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان ، قال سبحانه : بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط ؟ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادرا على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء ، ثم جعل ما عليها صعيدا جرزا كأن لم تغن بالأمس ، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة ، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك .
[ ص: 851 ] و عجبا منتصبة على أنه خبر كان أي : ذات عجب ، أو موصوفة بالعجب مبالغة ، و ( من آياتنا ) في محل نصب على الحال .
و إذ أوى الفتية ظرف لحسبت أو لفعل مقدر ، وهو اذكر أي : صاروا إليه وجعلوه مأواهم ، والفتية هم أصحاب الكهف ، والكهف هو الغار الواسع في الجبل .
فإن كان صغيرا سمي غارا ، والرقيم قال كعب والسدي : إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف .
قال الفراء : ويروى أنه إنما سمي رقيما ؛ لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه .
والرقم الكتابة .
وروي مثل ذلك عن . ابن عباس
ومنه قول العجاج في أرجوزة له : ومستقري المصحف الرقيم وقيل : إن الرقيم اسم كلبهم ، وقيل : هو اسم الوادي الذي كانوا فيه ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الغار .
قال : أعلم الله سبحانه أن الزجاج ليست بعجيبة من آيات الله ؛ لأن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف قصة أصحاب الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة أي : من عندك ، و ( من ) ابتدائية متعلقة بآياتنا ، أو بمحذوف وقع حالا ، والتنوين في ( رحمة ) إما للتعظيم أو للتنويع ، وتقديم ( من لدنك ) للاختصاص ، أي : رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك ، وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء والرزق في الدنيا وهيئ لنا من أمرنا رشدا أي : أصلح لنا ، من قولك : هيأت الأمر فتهيأ ، والمراد بأمرهم الأمر الذي هم عليه ، وهو مفارقتهم للكفار ، والرشد نقيض الضلال ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك رشدا . وتقديم المجرورين للاهتمام بهما .
فضربنا على آذانهم قال المفسرون : أنمناهم .
والمعنى : سددنا آذانهم بالنوم الغالب على سماع الأصوات ، والمفعول محذوف أي : ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيها للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ، و في الكهف ظرف لضربنا ، وانتصاب ( سنين ) على الظرفية ، و ( عددا ) صفة لسنين أي : ذوات عدد على أنه مصدر أو بمعنى : معدودة على أنه لمعنى المفعول ، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة .
قال : إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد ، وإن كثر احتاج إلى أن يعد وقيل : يستفاد منه التقليل ؛ لأن الكثير قليل عند الله الزجاج وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون . [ الحج : 47 ] .
( ثم بعثناهم ) أي : أيقظناهم من تلك النومة ؛ لنعلم أي : ليظهر معلومنا ، وقرئ بالتحتية مبنيا للفاعل على طريقة الالتفات ، و ( أي الحزبين ) مبتدأ معلق عنه العلم لما في ( أي ) من الاستفهام ، وخبره ( أحصى ) وهو فعل ماض ، قيل : والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازا ، فيكون المعنى : بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم ، والأولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده ، والمراد بالحزبين الفريقان من المؤمنين والكافرين من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم .
ومعنى ( أحصى ) أضبط ، وكأنه وقع بينهم تنازع في فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك ، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه ، و ( ما ) في ( لما لبثوا ) مصدرية أي : أحصى للبثهم ، وقيل : اللام زائدة ، و ( ما ) بمعنى الذي ، و ( أمدا ) تمييز ، والأمد الغاية ، وقيل : إن أحصى أفعل تفضيل . مدة لبثهم في الكهف ،
ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب ، وما ورد من كقولهم : أفلس من ابن المذلق ، وأعدى من الجرب . الشاذ لا يقاس عليه
وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عند سيبويه وابن عصفور ، وقيل : إن الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا ، وقيل : إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب .
وقال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم .
نحن نقص عليك نبأهم بالحق هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله : إذ أوى الفتية أي : نحن نخبرك بخبرهم ( بالحق ) أي : قصصناه بالحق ، أو متلبسا بالحق إنهم فتية أي : أحداث شبان ، و ( آمنوا بربهم ) صفة لفتية ، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال ، والفتية جمع قلة ، و زدناهم هدى بالتثبيت والتوفيق ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وربطنا على قلوبهم أي : قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان ، وفراق الخلان والأخدان ( إذ قاموا ) الظرف منصوب بربطنا .
واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال : فقيل : إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد ، فقال رجل منهم - هو أكبر القوم - : إني لأجد في نفسي شيئا ، إن ربي رب السماوات والأرض ، فقالوا : ونحن أيضا كذلك نجد في أنفسنا ، فقاموا جميعا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض قاله مجاهد .
وقال أكثر المفسرين : إنه كان لهم ملك جبار يقال له : دقيانوس ، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت ، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه فقالوا ربنا رب السماوات والأرض وقال عطاء ومقاتل : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم لن ندعو من دونه إلها أي : لن نعبد معبودا آخر غير الله لا اشتراكا ولا استقلالا لقد قلنا إذا شططا أي : قولا ذا شطط ، أو قولا هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر ، واللام هي الموطئة للقسم ، والشطط الغلو ومجاوزة الحد .
قال أعشى بن قيس :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وإذ اعتزلتموهم أي : فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا ، أي : عن العابدين للأصنام ، وقوله : وما يعبدون إلا الله معطوف على [ ص: 852 ] الضمير المنصوب ، و ( ما ) موصول أو مصدرية أي : وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه ، وقوله : ( إلا الله ) استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام ، أو متصل على تقدير أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه ، وقيل : هو كلام معترض ، إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ، فتكون ( ما ) على هذا نافية فأووا إلى الكهف أي : صيروا إليه واجعلوه مأواكم .
قال الفراء : هو جواب إذ ، ومعناه : اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم ، وقيل : هو دليل على جوابه ، أي : إذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا ، فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا ، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته أي : يبسط ويوسع ويهيئ لكم من أمركم مرفقا أي : يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده مرفقا ، المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرئ بهما ، مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع ، وقيل : فتح الميم أقيس ، وكسرها أكثر .
قال الفراء : وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان ، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهما لغتان ، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر ، والمرفق من الإنسان .
وقال : الكسر في مرفق اليد ، وقيل : المرفق بالكسر ما ارتفقت به ، والمرفق بالفتح الأمر الرافق ، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله ، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص . الكسائي
وقد أخرج ابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم علي بن أبي طلحة ، عن قال : الرقيم الكتاب . ابن عباس
وأخرج ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم عنه قال : الرقيم واد دون العوفي فلسطين قريب من أيلة ، والراويان ، عن ضعيفان . ابن عباس
وأخرج من طريق ابن جرير عنه أيضا قال : هو الجبل الذي فيه الكهف . ابن جريج
وأخرج ابن المنذر عنه ، قال : والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان ؟ وفي رواية عنه من طريق أخرى قال : وسألت كعبا فقال : اسم القرية التي خرجوا منها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أنس قال : الرقيم الكلب .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس كانوا من آياتنا عجبا يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
وأخرج ابن المنذر ، عن في قوله : ابن جريج فضربنا على آذانهم يقول : أرقدناهم .
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين من قوم الفتية أهل الهدى ، وأهل الضلالة أحصى لما لبثوا ، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : الربيع بن أنس وزدناهم هدى قال : إخلاصا .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله : وربطنا على قلوبهم قال : بالإيمان ، وفي قوله : لقد قلنا إذا شططا قال : كذبا .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم قال : جورا . السدي
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : عطاء الخراساني وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله قال : كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتى ، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله .
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم قتادة في الآية قال : هي في مصحف وما يعبدون من دون الله ، فهذا تفسيرها . ابن مسعود ،