قوله : وترى الشمس إذا طلعت شرع سبحانه في بيان حالهم بعد ما أووا إلى الكهف تزاور قرأ أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل ، وقرأ ابن عامر ( تزور ) قال الأخفش : لا يوضع الازورار في هذا المعنى ، إنما يقال : هو مزور عني : أي : منقبض .
وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها ، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو ، وهو الميل ، ومنه زاره : إذا مال إليه ، والزور الميل ، فمعنى الآية : أن الشمس إذا طلعت تميل وتنتحي عن كهفهم قال الراجز الكلبي : جاب المندا عن هوانا أزور أي : مائل ذات اليمين أي : ناحية اليمين ، وهي الجهة المسماة باليمين ، وانتصاب ( ذات ) على الظرف ، وإذا غربت تقرضهم القرض : القطع .
قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة : تعدل عنهم وتتركهم . قرضت المكان : عدلت عنه ، تقول لصاحبك : هل وردت مكان كذا ؟ فيقول : إنما قرضته : إذا مر به وتجاوز عنه ، والمعنى : أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين أي : يمين الكهف ، وإذا غربت تمر ذات الشمال أي : شمال الكهف لا تصيبه .
بل تعدل عن سمته إلى الجهتين ، والفجوة المكان المتسع ، وجملة وهم في فجوة منه في محل نصب على الحال ، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان : الأول : أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحا واسعا في ظل جميع نهارهم ، لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها ؛ لأن الله سبحانه حجبها عنهم .
والثاني : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت عن يساره ، ويؤيد القول الأول قوله : ذلك من آيات الله فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا [ ص: 853 ] إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار
ثم حكى سبحانه طرفا آخر من غرائب أحوالهم فقال : وتحسبهم أيقاظا جمع يقظ بكسر القاف وفتحها وهم رقود أي : نيام ، وهو جمع راقد كقعود في قاعد .
قيل : وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام .
وقال : لكثرة تقلبهم الزجاج ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال أي : نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين ؛ لئلا تأكل الأرض أجسادهم وكلبهم باسط ذراعيه حكاية حال ماضية ؛ لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو .
قال أكثر المفسرين : هربوا من ملكهم ليلا ، فمروا براع معه كلب فتبعهم .
و ( الوصيد ) ، قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب ، وكذا قال المفسرون ، وقيل : العتبة ، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب ، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا قال : ( فرارا ) منصوب على المصدرية بمعنى التولية ، والفرار : الهرب الزجاج ولملئت قرئ بتشديد اللام وتخفيفها منهم رعبا قرئ بسكون العين وضمها أي : خوفا يملأ الصدر ، وانتصاب رعبا على التمييز ، أو على أنه مفعول ثان ، وسبب الرعب ، وقيل : طول أظفارهم وشعورهم ، وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم ، ويدفعه قوله تعالى : الهيبة التي ألبسهم الله إياها لبثنا يوما أو بعض يوم فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئا ، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة .
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الإشارة إلى المذكور قبله أي : وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم ، وفيه تذكير جميعا ، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال : ليتساءلوا بينهم . أي : ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة ، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها ، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار ، وجملة : لقدرته على الإماتة والبعث قال قائل منهم كم لبثتم مبينة لما قبلها من التساؤل أي : كم مدة لبثكم في النوم ؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم أي : قال بعضهم جوابا عن سؤال من سأل منهم ، قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة ، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار ، فلذلك قالوا : يوما ، فلما رأوا الشمس قالوا : أو بعض يوم ، وكان قد بقيت بقية من النهار ، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة قالوا ربكم أعلم بما لبثتم أي : قال البعض الآخر هذا القول : إما على طريق الاستدلال ، أو كان ذلك إلهاما لهم من الله سبحانه أي : أنكم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله سبحانه فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة أعرضوا عن التحاور في مدة اللبث ، وأخذوا في شيء آخر ، كأنه قال القائل منهم : اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة ، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، والفاء للسببية ، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص ، عن عاصم بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة ، وأبو بكر ، عن عاصم بسكونها ، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف ، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء .
وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن و ( المدينة ) إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله ، دقسوس ، وهي مدينتهم التي كانوا فيها ، ويقال لها اليوم : طرسوس ، كذا قال الواحدي فلينظر أيها أزكى طعاما أي : ينظر أي أهلها أطيب طعاما ، وأحل مكسبا ، أو أرخص سعرا ، وقيل : يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال : زيد طبت أبا . على أن الأب هو زيد ، وفيه بعد .
واستدل بالآية على ؛ لأن عامة أهل المدينة كانوا كفارا ، وفيهم قوم يخفون إيمانهم ، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام حل ذبائح أهل الكتاب وليتلطف أي : يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن ، والأولى أولى ، ويؤيده ولا يشعرن بكم أحدا أي : لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له ، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف .
ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال : إنهم إن يظهروا عليكم أي : يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ، يعني أهل المدينة يرجموكم يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة ، فإن ذلك كان عادة لهم ، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل أو يعيدوكم في ملتهم أي : يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله ، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم ، وإيثار كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) للدلالة على الاستقرار ولن تفلحوا إذا أبدا في ( إذا ) معنى الشرط ، كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذا أبدا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس تزاور قال : تميل ، وفي قوله : تقرضهم قال : تذرهم .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : تقرضهم قال : تتركهم وهم في فجوة منه قال : المكان الداخل .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : الفجوة : الخلوة من الأرض ، ويعني بالخلوة الناحية من الأرض . سعيد بن جبير ،
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن في قوله : ابن عباس ونقلبهم الآية قال : ستة أشهر على ذي الجنب اليمين ، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر ، عن في الآية قال : كي لا تأكل الأرض [ ص: 854 ] لحومهم . سعيد بن جبير
وأخرج عن ابن أبي حاتم مجاهد أن اسم كلبهم قطمير .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم الحسن قال : اسمه قطمير .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طرق ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس بالوصيد قال : بالفناء .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : بالباب .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أيضا في قوله : وابن أبي حاتم أزكى طعاما قال : أحل ذبيحة ، وكانوا يذبحون للطواغيت .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه وابن أبي حاتم أزكى طعاما : يعني أطهر ؛ لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت .