قوله : وإذا رآك الذين كفروا يعني المستهزئين من المشركين إن يتخذونك إلا هزوا أي ما يتخذونك إلا مهزوءا بك ، والهزء السخرية ، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم إنا كفيناك المستهزئين [ الحجر : 95 ] والمعنى : ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزؤا أهذا الذي يذكر آلهتكم هو على تقدير القول : أي يقولون أهذا الذي ، فعلى هذا هو جواب إذا ، ويكون قوله : إن يتخذونك إلا هزوا اعتراضا بين الشرط وجوابه ، ومعنى يذكرها يعيبها .
قال : يقال فلان يذكر الناس : أي يغتابهم ، ويذكرهم بالعيوب ، وفلان يذكر الله : أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه ، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه ، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب ، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء ، قيل ومن هذا قول الزجاج عنترة :
لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري ، وجملة وهم بذكر الرحمن هم كافرون في محل نصب على الحال : أي وهم بالقرآن كافرون ، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون ، والمعنى : أنهم ، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد ، أو القرآن كافرون ، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم ، فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون ، وبذكر متعلق بالخبر ، والضمير الثاني تأكيد . يعيبون على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوءخلق الإنسان من عجل أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل . قال الفراء : كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة . وقال : خوطبت العرب بما تعقل ، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء خلقت منه كما تقول : أنت من لعب ، وخلقت من لعب ، تريد المبالغة في وصفه بذلك . ويدل على هذا المعنى قوله : الزجاج وكان الإنسان عجولا [ الإسراء : 11 ] والمراد بالإنسان الجنس . وقيل : المراد بالإنسان آدم ، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه ، فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع ، فقيل خلق الإنسان من عجل كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسدي والكلبي ومجاهد . وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني : العجل الطين بلغة حمير .
وأنشدوا :
والنخل تنبت بين الماء والعجل
وقيل : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ، وهو القائل : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ الأنفال : 32 ] وقيل : نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب .وقال الأخفش : أنه قيل له كن فكان . معنى خلق الإنسان من عجل
وقيل : إن هذه الآية من المقلوب : أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس ، والقول الأول أولى [ ص: 936 ] سأريكم آياتي أي سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار فلا تستعجلون أي لا تستعجلوني بالإتيان به ، فإنه نازل بكم لا محالة : وقيل : المراد بالآيات ما دل على صدق محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة ، والأول أولى .
ويدل عليه قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أي متى حصول هذا الوعد ، الذي تعدنا به من العذاب ، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية ، وقيل : المراد بالوعد هنا القيامة ، ومعنى إن كنتم صادقين إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب .
وجملة لو يعلم الذين كفروا ما بعدها مقررة لما قبلها : أي لو عرفوا ذلك الوقت ، وجواب لو محذوف ، والتقدير : لو علموا الوقت الذي لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون لما استعجلوا الوعيد .
وقال : في تقدير الجواب ليعلموا صدق الوعد ، وقيل : لو علموه ما أقاموا على الكفر . وقال الزجاج : هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة : أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية ، ويدل عليه قوله : الكسائي بل تأتيهم بغتة وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم ، ومحل حين لا يكفون النصب على أنه مفعول العلم ، وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه ، ومعنى ولا هم ينصرون ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم .
وجملة بل تأتيهم بغتة معطوفة على يكفون : أي لا يكفونها بل تأتيهم العدة أو النار أو الساعة بغتة : أي فجأة فتبهتهم قال الجوهري : بهته أخذه بغتا ، وقال الفراء فتبهتهم : أي تحيرهم ، وقيل : فتفجؤهم فلا يستطيعون ردها أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم فالضمير راجع إلى النار ، وقيل : راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة ، وقيل : راجع إلى الحين بتأويله بالساعة ولا هم ينظرون أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار .
وجملة ولقد استهزئ برسل من قبلك مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعزيته ، كأنه قال : إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم فحاق بالذين سخروا منهم أي أحاط ودار بسبب ذلك ، بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزئوا بهم ما كانوا به يستهزئون ما موصولة ، أو مصدرية : أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به ، أو فأحاط بهم استهزاؤهم : أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب ، أو نفس الاستهزاء ، إن أريد به العذاب الأخروي .
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن أي يحرسكم ويحفظكم والكلاءة الحراسة والحفظ ، يقال : كلأه الله كلاءة بالكسر أي حفظه وحرسه .
قال : ابن هرمة
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقال الفراء : المعنى من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة . وحكى الكسائي : ( من يكلؤكم ) بفتح اللام وإسكان الواو والفراء بل هم عن ذكر ربهم معرضون أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم ، بل يعرضون عنه ، أو عن القرآن ، أو عن مواعظ الله ، أو عن معرفته .
أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا أم هي المنقطعة التي بمعنى بل ، والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه ، والدفع عنها . والمعنى : بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم . ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدل على الضعف والعجز فقال : لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ولا هم منا يصحبون : أي ولا هم يجارون من عذابنا . قال ابن قتيبة : أي لا يجيرهم منا أحد ، لأن المجير صاحب الجار ، والعرب تقول صحبك الله : أي حفظك وأجارك ، ومنه قول الشاعر :
ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منا والرماح دواني