وأخرج ابن مردويه عن قال : أنزل ابن عباس بمكة قل أعوذ برب الناس .
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزل بالمدينة قل أعوذ برب الناس وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه .
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس
قرأ الجمهور قل أعوذ بالهمزة .
وقرئ بحذفها ونقل حركتها إلى اللام .
وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس ، وقرأ بالإمالة . الكسائي
ومعنى رب الناس : مالك أمرهم ومصلح أحوالهم ، وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ، ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم .
وقوله : ملك الناس عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم ، بل بطريق الملك الكامل ، والسلطان القاهر .
إله الناس هو أيضا عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام ، وأيضا الرب قد يكون ملكا ، وقد لا يكون ملكا ، كما يقال رب الدار ورب المتاع ، ومنه قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] فبين أنه ملك الناس .
ثم الملك قد يكون إلها ، وقد لا يكون ، فبين أنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد ، وأيضا بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلا كاملا ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس .
ثم لما [ ص: 1672 ] علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وأنه عبد مخلوق وأن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس ، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار ، ولأن التكرير يقتضي مزيدا من شرف الناس .
من شر الوسواس قال الفراء : هو بفتح الواو بمعنى الاسم : أي الموسوس ، وبكسرها المصدر : أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وقيل هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة ، والوسوسة : هي حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة : أي حدثته حديثا ، وأصلها الصوت الخفي ، ومنه قيل لأصوات الحلي وسواس ، ومنه قول الأعشى :
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
قال : الوسواس هو الشيطان : أي ذي الوسواس ، ويقال إن الوسواس ابن لإبليس ، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله : الزجاج فوسوس لهما الشيطان [ الأعراف : 20 ] ومعنى الخناس كثير الخنس ، وهو التأخير ، يقال خنس يخنس : إذا تأخر ، ومنه قول يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلاء بن الحضرميإذا دخسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس [ التكوير : 15 ] يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم ، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس .
الذي يوسوس في صدور الناس الموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا للوسواس ، ويجوز أن يكون منصوبا على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير مبتدأ .
وقد تقدم معنى الوسوسة .
قال قتادة : إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس .
قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك ، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت .
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني وإنسي ، فقال : من الجنة والناس أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه : شياطين الإنس والجن [ الأنعام : 112 ] ويجوز أن يكون متعلقا بيوسوس : أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بيانا للناس .
قال الرازي وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله : في صدور الناس لأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنسانا ، والإنسان أيضا يسمى إنسانا ، فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك .
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن ، فقيل لهم : من أنتم ؟ قالوا : ناس من الجن .
وأيضا قد سماهم الله رجالا في قوله : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن [ الجن : 6 ] وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس ، وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله : يوم يدع الداع [ القمر : 6 ] ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله : والناس معطوفا على الوسواس : أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس .
قال الحسن : أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .
وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس ، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي .
والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة .
وقد أخرج ابن أبي داود عن في قوله : ابن عباس الوسواس الخناس قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس .
وأخرج في مكايد الشيطان ابن أبي الدنيا وأبو يعلى ، وابن شاهين ، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخناس وأخرج إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن مردويه عن في قوله : ابن عباس الوسواس الخناس قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
وأخرج ، ابن أبي الدنيا ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، والبيهقي عنه قال : الوسواس الخناس وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله : حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة . ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة
وإلى هنا انتهى هذا التفسير المبارك بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، غفر الله له ذنوبه .
وكان الفراغ منه في ضحوة يوم السبت لعله الثامن والعشرون من شهر رجب أحد شهور سنة تسع وعشرين بعد مائتين وألف سنة من الهجرة النبوية .
اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على [ ص: 1673 ] تحصيله وتفضلت علي بالفراغ منه فامنن علي بقبوله ، واجعله لي ذخيرة خير عندك ، وأجزل لي المثوبة بما لاقيته من التعب والنصب في تحريره وتقريره ، وانفع به من شئت من عبادك ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي ، فإن هذا هو المقصد الجليل من التصنيف ، واجعله خالصا لك ، وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص ، واغفر لي ما لا يطابق مرادك ، فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه ، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيئات ، ومسبل ذيل الستر على الهفوات ، يا بارئ البريات ، وأحمدك لا أحصي حمدا لك ، وأشكرك لا أحصي شكرك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، وأصلي وأسلم على رسولك وآله . اهـ .
تم سماعا على مؤلفه حفظ الله عزته يوم الاثنين صبح اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1241 ه .
كتبه يحيى بن علي الشوكاني غفر الله لهما