الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
143 [ ص: 108 ] حديث عاشر لابن شهاب عن عبيد الله

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره فبال على ثوبه ، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله .

التالي السابق


أم قيس هذه اسمها جذامة بنت وهب بن محصن ، أخت عكاشة بن وهب بن محصن ، وقد ذكرناها في الصحابيات من كتابنا في الصحابة .

قال أبو عمر :

النضح في هذا الموضع : صب الماء من غير عرك ، وفي قوله : ولم يغسله ، دليل على ذلك إن شاء الله . وفي هذا الحديث أن الماء إذا غلب على النجاسات وغمرها طهرها ، وكان الحكم له لا لها ، ولو كان إذا اختلط بالنجاسات لحقته النجاسة ما كان طهورا ، ولا وصل به أحد إلى الطهارة ، وهذا مردود بأن الله عز وجل سماه طهورا ، وأجمع المسلمون على ذلك في كثيره ، وإن اختلفوا في معان من قليله ، وقد مضى القول [ ص: 109 ] واضحا في الماء في باب إسحاق بن أبي طلحة عند ذكر حديث ولوغ الهرة في الإناء ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .

قال أبو عمر :

أجمع المسلمون على أن بول كل آدمي يأكل الطعام نجس ، واختلف العلماء في بول الصبي والصبية إذا كانا مرضعين لا يأكلان الطعام ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : بول الصبي والصبية كبول الرجل ، وهو قول الثوري ، والحسن بن حي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام ، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك . وقال الشافعي : بول الصبي ليس بنجس حتى يأكل الطعام ، ولا يبين لي فرق ما بينه وبين الصبية ، ولو غسل كان أحب إلي . وقال الطبري : بول الصبي يتبع ماء ، وبول الصبية يغسل غسلا ، وهو قول الحسن البصري ، وقال سعيد بن المسيب : الرش بالرش ، والصب بالصب من الأبوال كلها .

قال أبو عمر :

احتج من ذهب مذهب الأوزاعي والشافعي بهذا الحديث ، ولا حجة فيه لأن النضح يحتمل أن يكون أراد به صب الماء ولم يرد به الرش . وهو الظاهر من معنى الحديث ، لأن الرش لا يزيد النجاسة إلا شرا . ومن الدليل على أن النضح قد يكون صب الماء والغسل من غير عرك ، قول العرب : غسلتني السماء ، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [ ص: 110 ] قال : إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر ، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر . وقد جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث فيها التفرقة بين بول الغلام والجارية ، منها ما رواه قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، عن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يغسل بول الجارية وينضح على بول الغلام .

قال قتادة : ما لم يطعما الطعام ، فإذا أطعما الطعام ، غسلا جميعا . ومنها ما رواه سماك بن حرب ، عن قابوس بن أبي المخارق ، عن لبابة بنت الحارث ، أن الحسن بن علي بال على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أعطني ثوبك أغسله ، فقال : إنما يغسل من الأنثى ، وينضح من بول الذكر .

وهذا عند جميعهم ما لم يأكل الطعام ، فقال جماعة من أهل الحديث : فالتفرقة بين بول الغلام والجارية - ما لم يأكلا الطعام - على هذه الآثار وما كان مثلها ، والنضح على بول الغلام عندهم : الرش ، ومن حجتهم ما رواه عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا يحيى بن الوليد [ ص: 111 ] قال : حدثنا محل بن خليفة ، قال : حدثني أبو السمح خادم النبي - عليه السلام - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بحسن أو حسين فبال عليه ، قال : فجئت لأغسله ، فقال : يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام .

قال أبو عمر :

القياس أن لا فرق بين بول الغلام والجارية ، كما أنه لا فرق بين بول الرجل والمرأة ، إلا أن هذه الآثار إن صحت ولم يعارضها عنه - صلى الله عليه وسلم - مثلها ، وجب القول بها ، إلا أن رواية من روى الصب على بول الصبي وإتباعه الماء أصح وأولى ، وأحسن شيء عندي في هذا الباب ما قالته أم سلمة : حدثني أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثني عبيد الله بن حبابة ، قال : حدثني البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : أخبرني المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أبيه ، عن أم سلمة ، قال : بول الغلام يصب عليه الماء صبا وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم .

[ ص: 112 ] وهذا حديث مفسر للأحاديث كلها ، مستعمل لها ، حاشا حديث المحل بن خليفة ، الذي ذكر فيه الرش ، وهو حديث لا تقوم به حجة ، والمحل ضعيف . وإذا صب على بول الغلام وغسل بول الجارية ، وقد علمنا أن الصب قد يسمى نضحا ، كان الفرق بين بول الغلام والجارية الرضيعين ما بين الصب والعرك تعبدا - كان وجها حسنا ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب على ما روي عن أم سلمة ، وبالله التوفيق . وقد كان الحسن البصري لصحة هذا الحديث عنده وهو روايته يعتمد عليه ويفتي به . روى حميد الطويل ، عن الحسن أنه قال في بول الصبية : يغسل غسلا ، وبول الصبي : يتبع بالماء ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية