الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

416 - واختلفوا في صحة السماع من ناسخ فقال بامتناع      417 - الإسفراييني مع الحربي
وابن عدي وعن الصبغي      418 - لا ترو تحديثا وإخبارا قل
حضرت والرازي وهو الحنظلي      419 - وابن المبارك كلاهما كتب
وجوز الحمال والشيخ ذهب      420 - بأن خيرا منه أن يفصلا
فحيث فهم صح أو لا بطلا [ ص: 198 ]      421 - كما جرى للدارقطني حيث عد
إملاء إسماعيل عدا وسرد      422 - وذاك يجري في الكلام أو إذا
هينم حتى خفي البعض كذا      423 - إن بعد السامع ثم يحتمل
في الظاهر الكلمتان أو أقل

الخامس : في النسخ والكلم وغيرهما وقت السماع أو الإسماع ( واختلفوا ) أي : العلماء ( في صحة السماع من ناسخ ) ينسخ حين القراءة ، مسمعا كان أو سامعا ( فقال بامتناع ) ذلك مطلقا في الصورتين الأستاذ الفقيه الأصولي أبو إسحاق ( الإسفراييني ) ، بفتح الفاء وكسر التحتانية ، إذ سئل عنهما معا ( مع ) أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق ( الحربي و ) أبي أحمد ( بن عدي ) في آخرين ; لأن الاشتغال بالنسخ مخل بالسماع . وعبارة الإسفراييني : فإنه إذا يشتغل به عن الاستماع ، حتى إذا استعيد منه تعذر عليه - انتهى .

وقد قيل السمع للعين ، والإصغاء للأذن ، وقيل : إنه لا يسمى سامعا ، إنما يقال له : جليس العالم . حكي عن جماعة ( و ) نحوه ما جاء ( عن ) أحد أئمة الشافعية بخراسان أبي بكر أحمد بن إسحاق ( الصبغي ) بكسر المهملة بعدها موحدة ثم معجمة نسبة لأبيه ; لكونه كان يبيع الصبغ ، إنه قال : ( لا ترو ) أيها المحدث ما سمعته على شيخك في حال نسخه ، أو أنت تنسخ ( تحديثا و ) لا ( إخبارا ) يعني : لا تقل : ثنا ولا أنا مع إطلاقهما ، بل ( قل حضرت ) ، يعني : كمن أدى ما تحمله وهو صغير قبل فهم الخطاب ورد الجواب ، وإن كان في مسألتنا أعلى .

( و ) لكن أبو [ ص: 199 ] حاتم محمد بن إدريس ( الرازي وهو الحنظلي ) نسبة لدرب حنظلة بالري ، وكفى به حفظا وإتقانا ( وابن المبارك ) عبد الله المروزي ، وكفى به دينا ونسكا وفضلا ( كلاهما ) قد ( كتب ) . أما أولهما ففي حال تحمله عند كل من محمد بن الفضل الملقب عارم وعمر بن مرزوق .

وأما ثانيهما ، ففي حال تحديثه ، وذلك منهما مقتض للجواز ، ومشعر بعدم التنصيص في الأداء على الحضور ( و ) كذا ( جوز ) موسى بن هارون ( الحمال ) بالمهملة ذلك ، بل عزى صحة السماع كذلك للجمهور سعد الخير الأنصاري .

( والشيخ ) ابن الصلاح ( ذهب ) إلى القول ( بأن خيرا منه ) أي : من إطلاق القول بالجواز أو بالمنع ( أن يفصلا فحيث ) صحب الكتابة ( فهم ) يعني : تمييز اللفظ المقروء فضلا عن معناه ( صح ) السماع منه وعليه ( أو لا ) يصحبها ذلك ، وصار كأنه صوت غفل ( بطلا ) هذا السماع ; يعني : وصار حضورا .

وسبقه لذلك سعد الخير الأنصاري ، فقال : إذا لم تمنع الكتابة عن فهم ما قرئ ، فالسماع صحيح - انتهى .

والعمل على هذا ، فقد كان شيخنا ينسخ في مجلس سماعه ثم إسماعه ، بل ويكتب على الفتاوى ويصنف ، ويرد مع ذلك على القارئ ردا مفيدا .

وكذا بلغنا عن الحافظ المزي وغيره ممن قبله وبعده ( كما جرى للدارقطني ) ، نسبة لدار القطن ببغداد ; إذ حضر في حداثته إملاء أبي علي إسماعيل الصفار ، [ ص: 200 ] فرآه بعض الحاضرين ينسخ ، فقال له : لا يصح سماعك وأنت تنسخ ، فقال له الدارقطني : فهمي للإملاء خلاف فهمك ، واستظهر عليه ( حيث عد إملاء إسماعيل ) المشار إليه ( عدا ) ، وإن جملة ما أملاه في ذاك المجلس ثمانية عشر حديثا بعد أن سأل المنكر عليه : أتعلم كم أملى حديثا ؟ فقال له : لا ، ثم لم يكتف الدارقطني بعدها إجمالا بل ساقها على الولاء إسنادا ومتنا ( وسرد ) ذلك أحسن سرد ، فعجب الناس منه . رواها الخطيب في تأريخه ، قال : حدثنا الأزهري قال : بلغني أن الدارقطني ، فذكر معناها .

وقد سمعت شيخنا يحكي عن بعضهم أنه كان يقرنها بما وقع للبخاري ; حيث قلبت عليه الأحاديث ، وبتعجب شيخنا من ذلك ، وهو ظاهر في التعجب ، ثم إن هذا كله فيما إذا وقع النسخ حال التحمل أو الأداء ، فلو وقع ذلك فيهما معا كان أشد ، ووراء هذا قول بعضهم : الخلاف في المسألة لفظي ; فإن المرء لو بلغ الغاية من الحذق والفهم لابد أن يخفى عليه بعض المسموع ، وإنما العبرة بالأكثر ، فمن لاحظ الاحتياط قال : ليس بسامع ، ومن لاحظ التسامح والغلبة عده سامعا ، ورأى أن النسخ إن حجب فهو حجاب رقيق - انتهى . [ وفي تسميته لفظيا مع ذلك توقف ] .

وما قيل في أن السمع للعين قد يخدشه ما رويناه في خامس المحامليات رواية ابن مهدي من حديث كلثوم الخزاعي عن أم سلمة ، أنها كانت تفلي رأس [ ص: 201 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءت زينب فرفعت طرفها إليها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( أقبلي على فلايتك ; فإنك لا تكلمينها بعينك ) ) .

ويلتحق بالنسخ الصلاة ، وقد كان الدارقطني يصلي في حال قراءة القارئ عليه ، وربما يشير برد ما يخطئ فيه القارئ ، كما اتفق له حيث قرأ القارئ عليه مرة : يسير بن ذعلوق ، بالياء التحتانية ، فقال له : ن والقلم ، [ ومرة : عمرو بن سعيد ] ، فقال له ياشعيب أصلاتك [ هود : 87 ] .

وقد قال الرافعي في أماليه : كان شيخنا أبو الحسن الطالقاني ربما قرئ عليه الحديث وهو يصلي ، ويصغي إلى ما يقول القارئ ، وينبهه إذا زل ، يعني بالإشارة .

وفي ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الإستراباذي من تأريخ سمرقند للنسفي ، أنه كان يكتب الكتاب عامة النهار وهو يقرأ القرآن ظاهرا ، لا يمنعه أحد الأمرين عن الآخر ، بل كان سأل الله تعالى في الكعبة كمال [ ص: 202 ] القوة على قراءة القرآن ، وجماع النسوان ، فاستجيب له الدعوتان .

وهل يلتحق بذلك قراءة قارئين فأكثر في آن واحد ؟ فيه نظر .

وقد قال الذهبي في طبقات القراء : ما أعلم أحدا من المقرئين ترخص في إقراء اثنين فصاعدا إلا الشيخ علم الدين السخاوي . وفي النفس من صحة كمال الرواية على هذا الفعل شيء ; فإن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ، قال : وما هذا في قوة البشر ، بل في قدرة الربوبية .

قالت عائشة رضي الله عنها : " سبحان من وسع سمعه الأصوات " ، انتهى .

وممن وصف العلم بذلك ابن خلكان ، فقال : إنه رآه مرارا راكبا إلى الجبل ، وحوله اثنان وثلاثة يقرءون عليه دفعة واحدة في أماكن من القرآن مختلفة ، ويرد على الجميع .

ولما ترجم التقي الفاسي في تأريخ مكة الشمس محمد بن إسماعيل بن يوسف الحلبي ، والد بعض من كتبت عنه ، قال في ترجمته : وكان في بعض الأحايين يقرأ في موضع من القرآن ، ويقرأ عليه في موضع آخر ، ويكتب في موضع آخر ، فيصيب فيما يقرؤه ويكتبه وفي الرد ، بحيث لا يفوته شيء من ذلك ، على ما [ ص: 203 ] بلغني قال : وهذا نحو مما حكي عن بعض القراء أنه كان يسمع ثلاثة نفر يقرءون عليه دفعة واحدة في أماكن مختلفة ، وعيب ذلك على هذا المقرئ .

قلت : وكأنه عنى السخاوي ، وكذا قال شيخنا : إنه شوهد ذلك من الحلبي مرارا - انتهى .

وفيه تساهل وتفريط ، ومقابله في التشدد والإفراط فيه ما حكاه الخطيب في ترجمة الحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن محمد الصوري ، أنه كان مع كثرة طلبه وكتبه صعب المذهب فيما يسمعه ، ربما كرر قراءة الحديث الواحد على شيخه مرات ( وذاك ) أي : التفصيل المذكور في مسألة النسخ ( يجري في الكلام ) من كل من السامع والمسمع في وقت السماع ، وكذا في إفراط القارئ في الإسراع ( أو إذا هينم ) أي : أخفى صوته ( حتى خفي ) في ذلك كله ( البعض ) ، و ( كذا إن بعد السامع ) عن القارئ ، أو كان في سمعه أو المسمع بعض ثقل ، أو عرض نعاس خفيف بحيث يفوت سماع البعض ( ثم ) مع اعتماد التفصيل في كل ما سلف ( يحتمل ) يعني : يغتفر ( في الظاهر ) [ من صنيعهم في المسموع ] ( الكلمتان ) [ إذا فاتتا ] ( أو أقل ) كالكلمة .

وقد سئل أبو إسحاق الإسفراييني عن كلام السامع أو المسمع غير المتصل ، وعن القراءة السريعة والمدغمة التي تشذ منها الحرف والحرفان ، والإغفاء اليسير ، فأجاب : إذا كانت كلمة لا تلهيه عن السماع جازت الرواية ، وكذا لا يمنع ما ذكر بعد ذلك من السماع ، وإذا لم يكن الإدغام يجوز في اللغة يكون حينئذ تاركا بعض [ ص: 204 ] الكلمة - انتهى .

بل توسعوا حين صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد لأكثر من ذلك ، بحيث كان يكتب السماع عند المزي وبحضرته لمن يكون بعيدا عن القارئ ، وكذا للناعس ، والمتحدث ، والصبيان الذين لا ينضبط أحدهم ، بل يلعبون غالبا ولا يشتغلون بمجرد السماع . حكاه ابن كثير .

قال : وبلغني عن القاضي التقي سليمان بن حمزة أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب ، فقال : لا تزجروهم ; فإنا إنما سمعنا مثلهم .

وكذا حكي عن ابن المحب الحافظ التسامح في ذلك ، ويقول : كذا كنا صغارا نسمع ، فربما ارتفعت أصواتنا في بعض الأحيان والقارئ يقرأ ، فلا ينكر علينا من حضر المجلس من كبار الحفاظ كالمزي والبرزالي والذهبي وغيرهم من العلماء .

وقال الذهبي : كان شيخنا ابن أبي الفتح يسرع في القراءة ويعرب ، لكنه يدغم بعض ألفاظه ، ومثله ابن حبيب .

وكان شيخنا أبو العباس ، يعني : ابن تيمية ، يسرع ولا يدغم إلا نادرا ، وكان المزي يسرع ويبين ، وربما تمتم يسيرا - انتهى .

[ ص: 205 ] وممن وصف بسرعة السرد مع عدم اللحن والدمج البرزالي ، ومن قبله الخطيب الحافظ ، بحيث قرأ البخاري على إسماعيل بن أحمد النيسابوري الحيري الضرير راويه عن الكشميهني في ثلاثة مجالس : اثنان منهما في ليلتين ، كان يبتدئ بالقراءة وقت المغرب ، ويختم عند صلاة الفجر ، والثالث من ضحوة نهار إلى طلوع الفجر . قال الذهبي : وهذا شيء لا أعلم أحدا في زماننا يستطيعه - انتهى .

وقد قرأه شيخنا في أربعين ساعة رملية ، وصحيح مسلم في أربعة مجالس ، سوى الختم من نحو يومين وشيء ; فإن كل مجلس كان من باكر النهار إلى الظهر .

وأسرع من علمته قرأ من الخطوط المتنوعة في عصرنا مع الصحة ، بحيث لم ينهض الأكابر لضبط شاذة ولا فاذة عليه في الإعراب ، خاصة مع عدم تبييت مطالعة شيخنا ابن خضر ، ولكن ما كان يخلو من هذرمة ، [ وأسرع [ ص: 206 ] ما وقع لي اتفاقا أنني قرأت في جلسة نحوا من خمس ساعات من مواقيت الصلاة في صحيح البخاري إلى الصيام ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية