الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ وجوب تعلم علم النحو ] :

وللخوف من الوعيد ( فحق النحو ) يعني : الذي حقيقته علم بأصول مستنبطة من اللسان العربي وضعت حين اختلاط العجم ونحوهم بالعرب ، واضطراب العربية بسبب ذلك ، يعرف بها أحوال الكلمة العربية إفرادا وتركيبا ، وكذا اللغة التي هي العلم بالألفاظ الموضوعة للمعاني ليتوصل بها إليها تكلما ، ( على من طلبا ) الحديث ، وأن يتعلم من كل منهما ما يتخلص به عن شين اللحن والتحريف .

وظاهره الوجوب ، وبه صرح العز بن عبد السلام حيث قال في أواخر ( القواعد ) : البدعة خمسة أقسام ، فالواجبة كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ; لأن حفظ الشريعة واجب لا يتأتى إلا بذلك ، [ ص: 161 ] فيكون من مقدمة الواجب . ولذا قال الشعبي : ( النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغني شيء عنه ) .

ثم قال العز : وكذا من البدع الواجبة شرح الغريب ، وتدوين أصول الفقه ، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم . يعني بذلك علم الحديث . ثم ذكر المحرمة والمندوبة والمباحة ، ثم قال : وقد يكون بعض ذلك - يعني ما ذكر في المباحة - مكروها أو خلاف الأولى . وكذا صرح غيره بالوجوب أيضا .

لكن لا يجب التوغل فيه ، بل يكفيه تحصيل مقدمة مشيرة لمقاصده بحيث يفهمها ويميز بها حركات الألفاظ وإعرابها ، لئلا يلتبس فاعل بمفعول ، أو خبر بأمر ، أو نحو ذلك ، وإن كان الخطيب قال في ( جامعه ) : ( إنه ينبغي للمحدث أن يتقي اللحن في روايته ، ولن يقدر على ذلك إلا بعد دربة النحو ، ومطالعته علم العربية ) . ثم ساق عن الإمام أحمد أنه قال : ( ليس يتقي من لا يدري ما يتقي ) .

وممن أشار لذلك شيخنا فقال : وأقل ما يكفي من يريد قراءة الحديث أن يعرف من العربية ألا يلحن .

ويستأنس له بما رويناه أنهم كانوا يؤمرون ، أو قال القائل : كنا نؤمر أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية الحروف الثلاثة . وفسرها بالجر والرفع والنصب ، وذلك لأن التوغل فيه قد يعطل عليه إدراك هذا الفن الذي صرح أئمته بأنه لا يعلق إلا بمن قصر نفسه عليه ، ولم يضم غيره إليه .

وقد قال أبو أحمد بن فارس في جزء " ذم الغيبة " : إن غاية علم النحو وعلم ما يحتاج إليه منه أن يقرأ فلا يلحن ، ويكتب فلا يلحن ، فأما ما عدا ذلك ، فمشغلة [ ص: 162 ] عن العلم وعن كل خير . وناهيك بهذا من مثله .

وقال أبو العيناء لمحمد بن يحيى الصولي : ( النحو في العلوم كالملح في القدر ، إذا أكثرت منه صار القدر زعاقا ) .

وعن الشافعي قال : إنما العلم علمان : علم للدين ، وعلم للدنيا ، فالذي للدين الفقه ، والآخر الطب ، وما سوى ذلك من الشعر والنحو فهو عناء وتعب . رويناه في " جزء ابن حكمان " ، وعلى ذلك يحمل حال من وصف من الأئمة باللحن ، كإسماعيل بن أبي خالد الأحمسي ، وعوف بن أبي جميلة ، وأبي داود الطيالسي ، وهشيم ، ووكيع ، والدراوردي .

وقرأ عبد الله بن أحمد بن موسى عبدان حال تحديثه وابن سريج يسمع : " من دعي فلم يجب " . بفتح التحتانية ، فقال له ابن سريج : أرأيت أن تقول : يجب . يعني : بضمها ، فأبى أن يقول ، وعجب من صواب ابن سريج ، كما عجب ابن سريج من خطئه في آخرين ممن لا أطيل بإيراد أخبارهم لا سيما وقد شرعت في جزء في ذلك ، وإليهم أشار السلفي لما اجتمع بأبي حفص عمر بن يوسف بن محمد بن الحذاء القيسي الصقلي بالثغر ، والتمس منه السماع وتعلل بأمور عمدته فيها التحرز من الوقوع في الكذب ; لأنه لم يتقدم له قراءة في العربية ، بقوله : ( وقد كان في الرواة على هذا الوضع قوم ، واحتج برواياتهم في الصحاح ، ولا يجوز تخطئتهم وتخطئة من أخذ عنهم ) . وسبقه النسائي فقال فيما رواه الخطيب في ( الكفاية ) [ ص: 163 ] من طريقه : إنه لا يعاب اللحن على المحدثين ، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد يلحن وسفيان . وذكر ثالثا . ثم قال : وغيرهم من المحدثين .

وقال السلفي أيضا في ترجمة محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن كادش الحنبلي : إنه كان قارئ بغداد ، والمستملى بها على الشيوخ ، وهو في نفسه ثقة كثير السماع ، ولم يكن له أنس بالعربية ، وكان يلحن لحن أصحاب الحديث .

وقال ابن ماكولا : أخبرني أبو القاسم بن ميمون الصدفي : أنا عبد الغني الحافظ قال : قرأت على القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي كتاب ( العلم ) ليوسف القاضي ، فلما فرغت قلت له : قرأته عليك كما قرأته أنت . قال : نعم ، إلا اللحنة بعد اللحنة . فقلت له : أيها القاضي ، أفسمعته أنت معربا ؟ قال : لا . قلت : هذه بهذه ، وقمت من ليلتي فجلست عند ابن اليتيم النحوي .

وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه : قرأت على أبي عبيد علي بن حسين بن حرب المعروف بابن حربويه جزءا من حديث يوسف بن موسى ، فلما قرأت قلت : قرأت كما قرئت عليك ؟ قال : نعم ، إلا الإعراب ، فإنك تعرب ، وما كان يوسف يعرب .

وفي ( اللقط ) للبرقاني ، وعنه رواه الخطيب في [ ص: 164 ] ( الكفاية ) من طريق عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران قال : سألت أحمد بن حنبل عن اللحن في الحديث - يعني إذا لم يغير المعنى - فقال : لا بأس به .

وأما ما ورد من الذم الشديد لمن طلب الحديث ولم يبصر العربية ، كقول شعبة : إن مثله كمثل رجل عليه برنس وليس له رأس . وقول حماد بن سلمة : إنه كمثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها . الذي نظمه جعفر السراج شيخ السلفي في قوله :


مثل الطالب الحديث ولا يحسن نحوا ولا له آلات     كحمار قد علقت ليس فيها
من شعير برأسه مخلات

فذاك في حق من لم يتقدم له فيها عمل أصلا ، على أن رب شخص يزعم معرفته بذلك ، وهو إن قرأ لحنه النحاة ، وخطأه لتصحيفه الرواة ، فهو كما قيل :


هو في الفقه فاضل لا يجارى     وأديب من جملة الأدباء
لا إلى هؤلاء إن طالبوه     وجدوه ولا إلى هؤلاء

وقد كان لعمرو بن عون الواسطي مستمل يلحن كثيرا فقال : أخروه . وتقدم إلى وراق كان ينظر في الأدب والشعر أن يقرأ عليه ، فكان لكونه لا يعرف شيئا من الحديث يصحف في الرواة كثيرا ، فقال عمرو : ردونا إلى الأول ، فإنه وإن كان يلحن فليس يمسخ . ونحو هذا الصنيع ترجيح شيخنا من عرف مشكل [ ص: 165 ] الأسماء والمتون دون العربية على من عرف العربية فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية