الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 106 ] باب صدقة البقر السائمة

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا مالك ، عن حميد بن قيس ، عن طاوس ، أن معاذا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ، ومن أربعين بقرة مسنة ( قال ) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يأخذ من ثلاثين تبيعا ومن أربعين مسنة نصا ( قال الشافعي ) وهذا ما لا أعلم فيه بين أحد من أهل العلم لقيته خلافا . وروي عن طاوس أن معاذا كان يأخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ومن أربعين بقرة مسنة ، وأنه أتي بدون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال : لم أسمع فيه شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ألقاه فأسأله . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ . وأن معاذا أتي بوقص البقر فقال : لم يأمرني فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما زكاة البقر فواجبة بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة وقال تعالى : وفي أموالهم حق للسائل ، وروى مالك بن أوس بن الحدثان ، عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الإبل صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البز صدقتها ، بالزاي معجمة . فإذا ثبت وجوب الزكاة فيها ، فأول نصابها ثلاثون وفيها تبيع ، وما دون الثلاثين وقص لا زكاة فيه ، وهو قول العلماء ، وحكي عن أبي قلابة أنه قال : في كل خمس شاة ، إلى عشرين فيها أربع شياه ، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ، فيكون فيها تبيع ، وحكي عن سعيد بن المسيب أن نصبها كالإبل في كل خمس شاة ، وفي كل خمسة وعشرين بقرة ، بدلا من بنت مخاض ، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ ستا وسبعين فيكون فيها بقرتان بدلا من بنتي لبون ، استدلالا بخبر ومعنى .

                                                                                                                                            [ ص: 107 ] فأما الخبر : فروى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من ذكر صدقات الإبل قال في آخره : وكذلك البقر .

                                                                                                                                            وأما المعنى : فاشتراكها في اسم البدنة والأضحية والإجزاء عن سبعة تساوي حكمها في نصب الزكاة وفرائضها .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : رواية عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفرائض ، وقال في البقر في كل ثلاثين تبيع ، وفي كل أربعين مسنة ، وروى طاوس اليماني أن معاذا كان يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا ، ومن أربعين مسنة ، وأتي بدون ذلك فأبى أن يأخذ منها شيئا ، وقال : لم أسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم شيئا حتى ألقاه وأسأله ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ ، وأن معاذا أتي بوقص البقر فقال : لم يأمرني فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء .

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : " الوقص ما لم يبلغ الفريضة ( قال ) وبهذا كله نأخذ . وليس فيما بين الفريضتين شيء ، وإذا وجبت إحدى السنين وهما في بقرة أخذ الأفضل ، وإذا وجد إحداهما لم يكلفه الأخرى ، ولا يأخذ المعيب وفيها صحاح كما قلت في الإبل " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : والشناق : ما بين الفرضين ، وقد يتجوز بالوقص فيستعمل ما بين الفريضتين أيضا ، فإن قيل : حديث طاوس عن معاذ مرسل ؛ لأن طاوسا ولد في زمان عمر رضي الله عنه وكان له سنة حين مات معاذ ، والشافعي لا يقول بالمراسيل ، فكيف يحتج بها ؟ قيل : الجواب عنه ، من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن هذا وإن كان مرسلا فطريقه السيرة والقضية ، وهذه قضية مشهورة في اليمن خصوصا وفي سائر الناس عموما ، وطاوس يماني ، فكان الأخذ به من طريق اشتهاره لا من طريق إرساله .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الشافعي يمنع من الأخذ بالمراسيل إذا كان هناك مسند يعارضه ، وإن كان مرسلا لا يعارضه مسند فالأخذ به واجب .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : أن هذا الحديث وإن أرسله الشافعي فقد أسند له غيره ، فكان الأخذ به من طريق الإسناد .

                                                                                                                                            [ ص: 108 ] روى المسعودي عن الحكم ، عن طاوس ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا ، ومن كل أربعين مسنة ، فقالوا له : فالأوقاص ؟ فقال : لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بشيء حتى ألقاه فأسأله ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : لا شيء فيها .

                                                                                                                                            فأما حديث عمرو بن حزم وقوله : " وكذلك البقر " فمعناه إن صح : وكذلك البقر في إيجاب زكاتها لا في مقادير نصبها ، فأما قياسهم على الإبل في اشتراكها في الإجزاء عن سبعة في الضحايا فيفسر بالغنم ؛ لأن السبعة عن سبعة ، ويقتضي على قياس هذه العبرة أن يكون في خمس وثلاثين منها شاة ، فعلم بالنص في الغنم فساد هذا الاعتبار وبطلان هذا الجمع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية