الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ثم يركب فيروح إلى الموقف عند الصخرات ، ثم يستقبل القبلة بالدعاء ، وحيثما وقف الناس من عرفة أجزأهم : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا [ ص: 171 ] موقف وكل عرفة موقف . ( قال ) : حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع قال : سمعت الشافعي يقول : " عرفة كل سهل وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة التي تفضي إلى طريق نعمان ، وإلى حصين وما أقبل من كبكب . " وأحب للحاج ترك صوم عرفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه ، وأرى أنه أقوى للمفطر على الدعاء ، وأفضل الدعاء يوم عرفة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الوقوف بعرفة فركن من أركان الحج واجب ، لا نعرف فيه خلافا بين العلماء : لرواية بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحج عرفات ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه . فإذا ثبت ذلك فالكلام بعده في فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : موضع الوقوف .

                                                                                                                                            والثاني : زمان الوقوف .

                                                                                                                                            فأما موضع الوقوف فهو عرفة ، وعرفة ما جاوز وادي عرفة الذي فيه المسجد ، وليس المسجد ولا وادي عرفة من عرفة إلى الجبال القابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط بني عامر ، وطريق الحصن ، فإذا جاوزت ذلك فليس من عرفة ، وهذا حد الشافعي ، وهو به أعرف ، فإذا فرغ الإمام من الصلاة توجه من مسجد إبراهيم إلى عرفة ، وقد حكى سفيان بن عيينة أن قريشا كانت تسمى الحمس ، وكانوا لا يخرجون من الحرم يوم عرفة ، ويقفون بنمرة دون عرفة في الحرم ، ويقولون لسنا كسائر الناس ، نحن أهل الله فلا نخرج من حرم الله ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقف مع قريش في الحرم ، ويخرج مع الناس إلى عرفة ، فروى عمرو بن دينار عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ذهبت أطلب بعيرا إلى عرفة ضل مني ، حتى أتيت عرفة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف مع الناس بعرفة ، فقلت : هذا من الحمس فما له خرج من الحرم ، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، ضربوا قبته بنمرة على رسم قريش ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل هناك إلى أن زالت الشمس ثم خرج ومضى إلى عرفة مسجد إبراهيم فصلى هناك ، ثم راح إلى عرفات ، فقلعت قبته ، ورفعت إلى الموقف ، وأنزل الله تعالى في ذلك : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [ البقرة : 199 ] ، أو ارجعوا من حيث رجع الناس ، وفي الناس هاهنا قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه إبراهيم ؛ لأنه كان يقف بعرفة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وقف بها وفي تسمية قريش بالحمس قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لأنهم تحمسوا في دينهم ، أي تشددوا ، ومنه قول العجاج :


                                                                                                                                            وكم قطعنا من قفاف حمس

                                                                                                                                            أي شداد .

                                                                                                                                            والثاني : أنهم سموا حمسا بالكعبة ؛ لأنها حمس ، حجرها أبيض يضرب إلى السواد .

                                                                                                                                            [ ص: 172 ] وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا عرفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذه عرفة وكلها موقف ، إلا وادي عرفة . وروى عبد الله بن صفوان عن خال له قال : كنا في موقف لنا بعرفة ، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ، فإذا ثبت أن عرفة هي الموقف فالذي يختار من ذلك أن يقصد نحو الجبل الذي يقال له جبل الدعاء ، وهو موقف الأنبياء صلى الله عليهم ، والموقف الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بين الأجبل الثلاثة ، وموقفه على الثالث هو الطواف الذي عند السن الذي خلفه مقام الإمام ، وقف على ضربين من الثالث ، وجعل بطن ناقته إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه ، فهذا أحب المواقف إلينا ، أن يقف فيه الإمام ومن معه من الناس .

                                                                                                                                            قال الشافعي : وحيث وقف الناس من عرفة في جوانبها ونواحيها ومضاربها ، وجبالها وسهولها وبطنها وأوديتها وسوقها المعروف بذي المجاز أجزأ ، إذا وقف في الموضع الذي يعرفه العرب بعرفة ، فأما إذا وقف بغير عرفة من ورائها أو دونها في عرفة عامدا أو ناسيا أو جاهلا بها لم تجزه ، وقال مالك : يجزئه وعليه دم ، وهذا خطأ ، لقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية